ثقافة الفراغ
 

محمد التعزي

محمد التعزي / لا ميديا -
في سبعينيات القرن الماضي، قامت ضجة في السعودية بين مَن يسمَّون «الإخوان»، أشياع الملك السعودي عبدالرحمن الفيصل آل سعود، وبين جماعة المتنوّرين من علماء الحجاز.
كان «الإخوان» يحرّمون تعليم المرأة، فأن تتعلم الفتاة مبادئ القراءة والكتابة، فهذه مفسدة أيما مفسدة، بل هي من علامات الساعة. واقتنع الملك سعود بن عبدالعزيز بأن من حق المرأة أن تتعلم، فسمح بالمدارس وأنشأ جامعة عُرفت بـ«جامعة الملك سعود» التي وقعت في «فك» الوحش العبوس الذي يكاد يلتهم هذه الخطوة، خطوة أن يقوم الذكر بتعليم الأنثى، فتوسط الملك فيصل بحل مقبول ارتضاه الطرفان، طرف متشدد يرى تعليم الفتاة شركاً ووثنية، وطرف وسطي يرى تعليم الفتاة بدعة منكرة، فكانت الدائرة التلفزيونية المغلقة (T.V Clsc.C)، وهو أن يسمح للفتاة أن ترى المدرسين من حيث لا يرونها، فالمعلم يدخل الاستوديو فيلقي محاضرة كما لو كان يكلم نفسه، ويتاح للطالبة أن تسأل الأستاذ «الذكر» وتناقشه من خلال ميكرفون، وهكذا -حتى اليوم- صارت هذه الآلية عادة بين الطالب والمطلوب، الذكر والأنثى، مع وجود تذمر بين الطلاب السعوديين الذين يرون في «الفصل» بين الجنسين عنصرية لم تعد مقبولة في وقت سافرت فيه كثير من الفتيات السعوديات إلى معظم دول العالم الذي يرى ليس في الاختلاط وحسب حرية شخصية، بل وفي الممارسة الجنسية (الزنا) الحرية نفسها ما دام الأمر لا يتجاوز رضا الطرفين!
وثارت ضجة في هذه الفترة ليس في السعودية وحدها، بل في مصر والعراق وبلاد سورية الكبرى فلسطين ولبنان: هل تكشف المرأة وجهها أم لا؟! وكتب الكاتبون ضد ومع (بالموازاة مع فكرة أخرى، وهي: هل من حق المرأة أن تختلط مع الرجل أم لا؟!)، وانتصرت الحرية، حرية الاختلاط وحرية السفور، بل وصدرت في مصر مجلة بهذا الاسم «السفور»...
الملاحظ أن بعض الأنظمة السياسية في العالم العربي تصطنع بعض القضايا انطلاقاً من «ثقافة الفراغ» لتلهي المجتمع عن حقيقة ما يدور. ولأن الحرب فنون، فإن بعض الأنظمة قد يحدث فيها اختراق يوردها مورد التهلكة، فينبغي أن تحذر بعض الأنظمة الوطنية من هذا المكر وهذا الكيد وهذا الضلال!
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ذهبت لجنة من بعض العلماء المغفلين إلى القاضي عبدالرحمن الإرياني وطلبوا إليه أن يأمر بإغلاق السينما، لما فيها من أفلام فاسدة، إذ يظهر فيها إلحاد وكفر، كتقبيل النساء والخلوة بين النساء والرجال وشرب الخمر والاستهزاء بالعلماء وأهل الله... ولما لم يستجب رئيس المجلس الجمهوري للطلب، حصل تفجير بعض القنابل الصوتية في بعض دور السينما في تعز: «سبأ» و»التحرير»، و»يوليو». وخطب الإخوان فحرضوا الجماهير على القاضي عبدالرحمن الإرياني في الجوامع. وحضر القاضي ومعه عضو المجلس الجمهوري الشيخ محمد علي عثمان خطبة المظفر، خطبة ألقاها المرحوم الشيخ عمر أحمد سيف الذي خاطب الجماهير: «أيها الناس، إننا نعيش في ظلال حكم فاسد على رأسه القاضي العلامة عبدالرحمن الإرياني، الساكت عن ملهى المنتزه، منتزه تعز، الذي يُشرب فيه الخمر جهرة، وفي منتزه الحوبان...». وعزم القاضي أن يسجن الشيخ الصوفي عمر أحمد سيف، لولا تدخل عضو المجلس الجمهوري بجانبه: «الآن سجن الشيخ عمر أحمد سيف سوف يثير غضب الجماهير، بل استطاع المرحوم الأستاذ عبدالرحمن قحطان أن يسير أمام جماهير «المظفر» قاصداً منزل عبدالرحمن الإرياني في المستشفى الجمهوري؛ غير أن الجماهير سرعان ما تبددت، فما وصل قحطان إلى شارع الجمهورية ومعه إلا بضعة أفراد، فحوقل وحسبل ناعياً الإسلام وأهله!
هذه الأيام ثارت ضجة الفصل بين طلاب بعض كليات بعض الجامعات؛ لأن الاختلاط فساد، ودفعت بعض الكيانات بعض الناس للثأر من هذا الفصل، الذي هو تهمة غير مباشرة لشبابنا بالفساد والانحراف. ويرى بعض العقلاء أن هذا الموضوع وإثارته تعبير عن «ثقافة الفراغ»، فكان على هذه الجامعة أن تكثف الدعوة إلى الأخلاق الحميدة والاستقامة والتحصين بالسلوك الإسلامي الصانع الوحيد للضمير والضامن الأكبر للسلوك الإسلامي على مستوى الجماعة والأفراد، وبالله التوفيق والسداد.

أترك تعليقاً

التعليقات