فضول تعزي
 

محمد التعزي

محمد التعزي / لا ميديا -
بالأمس طفرت من عيني بضعة دموع بشوق لا إرادي عندما لمحت وأنا أمر في شوارع مختلفة لوحات ثلاثاً لمركبات أحدها باص. أما اللوحة الأولى فكانت لحج. وأما الثانية فكانت حضرموت. وأما الثالثة فكانت عدن.
قد لا يبدو هذا الأمر خطيرا لدرجة أن يحتل عمودا في صحيفة "لا" النفيسة، ولكني أردت أن أعبر عن هذه الفرحة التي انتابتني درجة الدموع، مما جعلني أتلقف البشارة التي ندت من حزن عميق على هذا الوطن الذي أصبح جزءا من مجزوءات، فلقد أصبح الشمال أكثر من شمال والجنوب أكثر من جنوب، غير أني استبشرت بهذه المناظر الثلاثة التي تدل على أن الشعب اليمني هو الشعب الواحد جنسا وعقيدة ولغة وطبقة.
أذكر أني وبرفقة بعض الزملاء الراحلين: الأستاذ محمد المجاهد، رئيس تحرير صحيفة "الجمهورية"، والأديب الكاتب عبدالكريم المرتضى، والأديب الكاتب عبدالله سعد محمد، غادرنا مدينة تعز باتجاه عدن، أيام تصدق علينا النظام في الشمال والجنوب بدخول عدن بالبطاقة الشخصية. وعندما وقفنا في الحد الفاصل اللعين بين الشمال والجنوب (منطقة كرش) وقفنا جماعة من الرفاق الاشتراكيين أحدهم كان محافظ عدن (قيل بأنه لقي حتفه في عرض البحر) وقال لنا: "وين رايحين؟". فقال له الأستاذ المجاهد: "عدن". فقال الرفيق: "وين البطائق؟". فاندفعت بلحظة جاوزت أدب الحديث: "بلادي مش بلاد أبوك". فقال بأدب جم ضاحكا هو ورفاقه: "تفضلوا"!.
وكم سعدنا ذات يوم بأن الأطراف الممزقة سترجع جميعها لتشكل هذا الجسد الواحد (اليمن) الذي أعاد أمل كل يمني، فقيرهم وغنيهم، سفيههم ورشيدهم، مجنونهم وعاقلهم، ففرح الجميع وسعد وطرب بالوحدة. وأحب أن أشير إلى أنه كان في عدن ما يسمى "معسكر طارق" لا يغادر أي يمني من الجنوب ليزور أمه أو أباه أو أخته أو قريته إلا بالمرور بإذن من هذا المعسكر الفاشستي، كما أنه لم يكن بإمكان أي يمني شمالي أن يزور أباه أو أمه أو أخته أو قريته في الجنوب إلا بأن يظل رهيناً للبرد أكثر من شهر في درج "الأمن الوطني"، فهو يأتي في المساء ليستخرج الإذن فيقال له: إن الفندم سيأتي بعد قليل! ويغدو بالصباح ليقال له: إن الفندم سيأتي في المساء! ويتفضل الفندم بعد رحلة من الوساطات والسهر والقلق ليحقق معه قرابة يوم كامل: فيما السفر إلى عدن؟ ويأذن له بعد أن يأتي بضمانة تجارية ليتضح أن التاجر قد استدعي إلى الأمن الوطني ليحقق معه في قضية ضمانته على هذا العميل الذي اتضح أنه شيوعي.
ومن الطريف المضحك أن أحد الزائرين الذي ضمن عليهم التاجر والذي لتهم بأنه شيوعي كان مؤذناً في مسجد داخل حارة مجهولة، ويتهم من جانب آخر هذا الذي طلب الإذن من معسكر طارق بأنه عميل للإمبريالية والاستعمار والرجعية!
مشاعر صادقة تبشر بالأمل الجميل، وهو أن يتوحد اليمن بعد هذا التشظي المسف والقبيح والغبي والأحمق. ونحن مستبشرون بدليل واحد أكثر وضوحا من الشمس، وأن الوحدة خالدة باقية بقاء الليل والنهار، وأن دماء اليمنيين من أول التاريخ حتى آخره قد ضمنت هذه الوحدة أبداً.
كنا نتمنى على أشقائنا في الجنوب وقد نادوا -تحت رايات مختلفة وذات ألوان فاقعة- أن يعود الجنوب دولة مستقلة كما كان، واتضح أن هذا الأمر هراء، وأن هذه الدعوى كما هي قبيحة هي مرذولة وساقطة ضد حركة التاريخ وطبيعة اليمن واليمنيين، وكنا نود أن تظل عدن عاصمة الجنوب وحضرموت وبقية المدن المحتلة تعيش أماناً وسلاماً؛ دافئة في الشتاء، منورة باردة في قيظ الصيف، ولكنها الآن تعيش كل لحظة وكل ثانية خائفة مذعورة، يعيش كل أبنائها خوفا وقلقا وجوعا ورعبا، لا يغادر المرء منزله إلا وقد ارتجفت أسرته من سؤال مخيف: هل يعود إلى البيت أم لا يعود؛ ذكرا كان أم أنثى؟!
لحج وعدن وحضرموت وباقي مدن اليمن في الجنوب والشمال في وجداننا رغم أنف الفواصل و"الخشبات" التي تقطع أوصال اليمن بسكاكين الفرقة والاختلافات والخلاف.
نحن جميعا فداء لليمن الواحد بهضابه وسهوله وبحاره وأمزجته وطباعه وآماله الكبار والصغار. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أترك تعليقاً

التعليقات