عروبة اليوم
 

محمد التعزي

محمد التعزي / لا ميديا -
نذكر أنه بتاريخ ديسمبر 1971 عقد مهرجان أبي تمام في محافظة الموصل العراق، مهرجان الشعر العربي حضره كثير من شعراء العرب. مثّل اليمن الشاعر الكبير عبدالله بن صالح البردوني، وكانت قصيدته إلى حد كبير من عوارف المعارف التي قدمت اليمن حضارة وفناً وأدباً وعروبة، فكثير من الناس والعرب بخاصة لا يعرفون عن اليمن غير أنها أساطير مهجورة ينقلها الأجداد إلى الأحفاد لتظل اليمن ذلك المجهول.
كانت القصيدة ذات عنوان مثير يستدعي أثراً حضارياً سامقاً بقدر ما تمثله مدينتان عريقتان في الضوء العربي (بغداد وسامراء) المدينتان اللتان أعادتا للإنسانية آدميتها من خلال المعرفة التي قدمتاها لكل البشرية باعتبار الإنسان خليفة الله في كونه الفسيح.
رجل يميل إلى القِصَر، مجدور الوجه، أشعث أغبر، يقوده أحد البصراء، يصعد درج المسرح، يصفق لبلده وليس له الآن، عله من باب التشجيع يقضي مدته المحددة بنصف الساعة، فيقول ما ينبغي أن يقول منتسب إلى حضارة شامخة من قبل الميلاد، فيقول وكأنه يقدم نفسه للذين جاؤوا من كل فج عميق من الشعراء الذين لا يستطيعون أن يقدموا لهذه الأمة المترامية من المحيط إلى الخليج غير هذا الكلام الذي يحيى موات القلوب إن كان لها حظ من حياة.
يخاطب عبدالله صالح البردوني زميله في الإبداع أبا تمام حبيب بن أوس الطائي، خطاباً أقرب ما يكون إلى بيان سياسي ثوري، يشكو إليه مدى الهوان الذي وصلت إليه الأمة العربية، والتي منها الأمة اليمنية، كأنه يكرر الحكمة البالغة: «كلنا في الهم شرق»، فحال صنعاء والأمة العربية واحد كواحدية الدين واللغة والأرومة (الأصل):
«حبيبُ» وافيتُ من صنعاءَ يحملني
نسرٌ وخلف ضلوعي يلهثُ العرب

ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟!
مليحةٌ عاشقاها السلُّ والجربُ

ماتت بصندوق «وضّاحٍ» بلا ثمنٍ
ولم يمتْ في حشاها العشقُ والطربُ

ولكن الشاعر كما صنعاء لم يستسلما لليأس ولا للقنوط:
لكنها رغم بخل الغيثِ ما برحت
حبلى وفي بطنها «قحطان» أو «كرِبُ»

وفي أسى مقلتيها يغتلي «يمنٌ»
ثانٍ كحلم الصبا، ينأى ويقتربُ!

قبل أن ننظر في أنساق القصيدة، نرى أن نلقي بعض ضوء على المجال العربي وفق معطيات واقعية تاريخية أقرب ما تكون إلى ملاحظة «حتميات» سلسلت مراحل متلاحقة أرّخت للواقع التاريخي والفني، فعلى سبيل المثال:
ازدهر الأدب العربي، وخاصة الشعر والنثر، في العصر الأموي مثل شعر الاتجاه العروبي، مقابل رياح الشعوبية التي حاولت أن تسترد المجد الفارسي الذي اعتبر العروبة مسؤولة عن انهيار حضارته العريقة، فاستغل الشعر أقصى إمكاناته الإبداعية لإعلاء مجد العروبة المتوهج الذي ينبغي أن يزداد وهجاً أمام رياح عاصفة، وحاول الشعراء أن يبذلوا قصارى جهدهم لإبقاء الشعر تعبيراً عن الهوية القومية العربية. وكانت حركة النثر توازي حركة الشعر؛ إلا أن النثر كان أكثر فصاحة في إطار التمكين للهوية القومية مقابل حركات «خوارجية» رأت أن تسقط النظام العربي على أي نحو. وللأسف فإن الفرس واصلوا النضال والثورة ضد العنصر العربي الذي بدأ في الخمول والذبول منذ نهاية العصر الأموي، وبدأت شمس الحضارة بالأفول وتوالت الكوارث والنكبات. وهنا صاح الشاعر العربي عبدالله البردوني صيحة حاولت تصوير هذا الواقع المزري، فشخّص الواقع بهذه الملحمة الرائعة.

أترك تعليقاً

التعليقات