فضول تعزي
 

محمد التعزي

محمد التعزي / لا ميديا -
في رمضان تنفتح شهية القراءة، وتغلبها في الوقت ذاته شهية التلفزيون، وأضطر أحياناً إلى مجاملة «زوجي» (الزوج هي اللفظ الفصيح بدلاً من «زوجتي»)، فأتابع معها برامج تعنى بالمرأة غالباً، كبرامج إعداد الوجبات أو تعلمها. وقد خرجنا إلى اتفاق مفاده أن المطبخ المصري فقير، ولكنه غني بالزيوت والسمون. وقرأت ذات قراءة أن نسبة غير قليلة من إخواننا المصريين يموتون بالسكتة القلبية والذبحة الصدرية بسبب السمنة، وفي القاهرة أيام الدراسة، كان يخيّرني رفيقي الذي عزمني على الفول: تشتيه باليمني أو المصري؟ فإذا قلت: بالمصري؛ غُمر الفول بالزيت، فأقول له: هذا زيت بالفول! وقد فهمت «زوجي» مؤخراً أنني أميل إلى بعض برامج أو حلقات «توم وجيري»، وهو ما يعكس الصراع الدائر بين الحكومة والمعارضة في الوطن العربي من ناحية، وما يلقنه هذا المسلسل لأطفالنا من أساليب المكر والاحتيال...
أقول إن شهية القراءة في رمضان تنتصر مغالبتها شاشة التلفزيون التي تبتعد أحياناً عن الكذب وتلميع قيادات مجرمة تلطخ يدها بآهات الفقراء والمعوزين الذين يضيق بهم مجالنا العربي.
وقبل أن أنهي هذه المقدمة، لا بد من الإشارة إلى أن هناك وسواساً خنَّاساً من الجِنّة والناس يطرح سؤالاً خطيراً وسافر القبح والهبوط: ماذا تفيد القراءة؟! إن القراءة لم تفدك شيئاً غير الفضول وضياع الوقت!!
وأردفت زوج زميلي الدكتور: هلا كنت تعلمت «حجر وطين»؟! كان يمكن أن نطعم بعض السنبوسة وما تيسر من الشوربة التي كدنا ننساها! وبالرغم من ذلك أعود إليّ: هذه هي المرة الخامسة التي أعاود فيها قراءة مذكرات فتاة فرنسية قتلها حباً وشغفاً وجراً شاب مصري جاء من أقصى الصعيد اسمه «حسن»، أما الفتاة فاسمها «سوزان» وجاءت من مصبات جبال «البرانس»، كانت همه هذا الوافد الضرير وعزيمته التي تغالب المستحيل وتنتصر عليه.
لقد كان طه حسين بحجم الجبل الشامخ، عاش حروباً ضروساً في حياته، ابتداءً من حربه مع شيوخ الأزهر رهناء الشروح والحواشي والمتون من عصور غابرة، وانتهاء بـ»الشعر الجاهلي» الذي أدخله بعض السلطة دائرة الكفر بالله ودينه القويم!
وكتاب «معك» لأم آمنة ومؤنس، ترجمه من الفرنسية إلى العربية بدر الدين عرودكي، وراجعه التقدمي الكبير الأستاذ محمود أمين العالم، وصدر عن دار «الهنداوي» بالقاهرة.
ما قصدته بالحديث عن سيرة سوزان طه حسين في كتابها «معك» هو أن أقدم قراءة للكتاب لا تحليلاً له، وإنما أردت أن أسجل انطباعاً شخصياً عن هذه المرأة المناضلة التي أحبت فتى عربياً ضريراً غريب الثقافة، فهو عربي بمحمولات هذه العبارة، وباختلاف دلالاتها، وسوزان مسيحية، وهو (طه حسين) مسلم وله ثقافة أزهرية وينتمي إلى حضارة شرقية بذوقها وفاعليتها الأخرى، بينما هي منتمية إلى حضارة المتوسط بفاعلياتها. ولنا أن نقف هنا عند هامش صغير يتمثل في سؤال - أحسب أنه لم يطرق من قبل: إلى أي مدى أثر الطرفان كل منهما بالآخر، طه حسين أم سوزان؟ وأحسب أن مدة أكثر من خمسين عاماً، هي مدة علاقتهما، كافية أن تضع أي باحث أمام تقرير حقيقة مفادها ضرورة التأثير والتأثر. فهل استطاعت الفتاة «كلود» (سوزان فيما بعد) أن تظهر من خلال عنوان: «مستقبل الثقافة في مصر» الذي أحدث هزة عنيفة تكاد تكون زلزالاً في مبنى الكيان الثقافي العتيق، وهي الهزة الثانية بعد هزة «الشعر الجاهلي»؟ فإذا كان «الشعر الجاهلي» قد نسف فاعلية «الانتماء القومي» وأطاح بما أكاد أسميه المحمولات الرمزية التي يكون تماثل الرموز عند الجاهليين من وقوف على الطلل والغزل والرحلة، والغرض الأخير أو مجموعها يمثل «البنية» أو بنية القصيدة أحد عوامل هذا الانتماء، فإن كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» قد استطاع أن ينسف دعوة مثلت أحد مرتكزات دعوة تطورت فتية شابة في حضن السلفية الكلاسيكية التي خرجت فيما يبدو من جلباب «ابن تيمية» بعد دهر طويل من البحث عن مخرج من أزمة مفهومية، فكانت النتيجة الضرورية هي العودة إلى الجذور. وهنا لا بد من أن يتسع الهامش قليلاً -بعد إذن القارئ الكريم- لنقول إن هناك ما يشبه التقابل الضدي بين ابن تيمية وطه حسين، وهو أشبه بلعبة «شد الحبل» التي تختبر فاعلية القوة بين طرفين. فبينما يرتد ابن تيمية ليبحث عن حل في عبادة الإسلام الأول، فإن طه حسين يبحث عن حل في «بنطلون» المتوسط. فالكتاب «مستقبل الثقافة في مصر» بمجلداته الثلاثة يركز على فكرة شجاعة فاقعة، أن مصر لا بد إن أرادت النهضة الحقيقية التي تدفع بها إلى آفاق المستقبل المنشود واللحاق بركب العالم المتحضر أن تطرح جلباب الماضي المتخلف القادم من غبار الصحراء ووراء القرون، وتأخذ بأسباب الحضارة، حضارة المتوسط، بخيرها وشرها - دون تحفظ، وألا مخرج لمصر من غربتها وتخلفها إلَّا وفق هذا الشرط!!
وربما أثرت سوزان على طه من حيث لا يدري، إلا ما يؤديه الواقع المؤيد بكل المعطيات الحضارية التي لا مجال للمقارنة بين التخلف والتقدم، بل أكاد أضيف عاملاً مؤثراً وهو انبهار هذا الضرير بحضارة أوروبا، وفرنسا بخاصة، ثم إن عامل عاهة طه حسين قد تعاون مع بقية العوامل الأخرى لتحول دون الضبابية أو الرمادية، فجعلته يتبع المفاصلة في سلوكه العملي والذوقي معاً.
«معك» رحلة كفاح تعرض لنا الائتلاف في إطار الاختلاف إن وجد، وهو عقل رشيد وبصيرة منورة. وهنا أسأل: هل يمكن أن نرى نسخة أو نسخاً يمنية من «معك»؟! فالذين صنعوا الثورات اليمنية لم يكونوا لوحدهم، بل كان معهم نساء زعيمات عظيمات تستطيع كل واحدة منهن أن تقول لزوجها الثائر اليمني: «معك».

العادة في فن «السيرة الذاتية» عند الغرب أن كاتب السيرة لا يتورع عن قول أي شيء كان في حياته، وأنه يظهر كل ما حدث في هذه الحياة، ويؤمن بأن إخفاء أي شيء في هذه الحياة إنما هو لون من ألوان الكذب الحقير الذي لا ينبغي أن يكون، وذلك إنما يعود لمصادرهم الثقافية والتي يتشربونها من أيام طفولتهم.
وقالت ماري لوبان، التي ترشحت لرئاسة فرنسا منافسة الرئيس المنتهية ولايته عام 22، إن أبرز ما ينبغي أن تنجزه للشعب الفرنسي إنما هو استرداد حضارة فرنسا من الوحش الإسلامي، وأنها ستطرد الدخلاء على الحضارة الفرنسية. وزعيمة الحزب اليميني المتطرف تقصد بذلك العرب والمسلمين. وليهولنك وأنت تسير في شارع الشانزلزيه مشاهدة عشرات أماكن الدعارة والفجور يحميها القانون وترعاها الحرية الشخصية، فيوفر للبغايا حق الكشف الطبي والرعاية الصحية.
وكان الشاعر الكبير نزار قباني قد نشر بضع قصائد عن «شارع بيجال»، أكبر شارع حب في العالم، حيث وصف النهود والقرود. في ثقافة العربي ما يجعل الممارسات الشخصية أموراً خاصة ليس من حق أحد أن يتجسس عليها، فضلاً عن أن يكشفها. والذي فرض هذا القانون أو على الأصح هذا السلوك أكثر من «تابو»، تابو ديني، وتابو اجتماعي، وتابو ثقافي أو مصلحي...!
لقد جاء الإسلام ديناً يحترم الخصوصية الشخصية احتراماً كبيراً، فمنع التجسس، بل ذهب بعض الفقهاء إلى إجازة فقء عين الجاسوس الذي يطلع على عورات الناس. وفي الحديث الشريف نهي شديد عمن يستره الله يعمل فاحشة يسترها الله عليه في الليل ثم يذيعها نهاراً. وأمر الله نبيه الكريم بإجلاء يهود عن المدينة بسبب كشف يهودي عورة مسلمة، الأمر الذي عرض «وثيقة المدينة» التي أقرها ببنودها الواضحة، النبي الكريم طرف أول فيها، وطرفها الثاني يهود، الذين كانوا أساس كل مصيبة تنال المسلمين، إلى درجة أن يتآمر اليهود لقتل النبي صلوات الله وسلامه عليه، كما قتل آباؤهم أنبياء الله بغير حق في عهود غابرة.

أترك تعليقاً

التعليقات