عبقرية
 

محمد التعزي

محمد التعزي / لا ميديا -
عبقر - كما تسميه بعض المعاجم، نسبة إلى وادٍ في الحجاز سكنته بعض القبائل، حيث ينسب إلى أحد كبار الجن ويسمى عبقر، ومعناه في اللغة التداولية الأمر الخارق الذي لا يستطيع الإنسان أن يؤديه. وفي مصطلح علم النفس فإن الفرد أو الجماعة عندما تعجز عن تحقيق أمر فإنها تلجأ إلى عالم الغيب المجهول لتحقيقه، ومن هنا تنشأ الأسطورة التي تعتمد الخرافة، بل تكون بعض أسباب مصادر الرزق للمشعبذين والنصّابين الارتزاقيين في المجتمعات الجاهلة والغافلة معاً!
في مجال المعرفة توجد أيضاً أمور خارقة للعادة، على مستوى الجماعة وعلى مستوى الأفراد. ونستدل على ذلك بواقع الحرب الكونية التي حدثت وتحدث في اليمن الآن، فإن بندقية «كلاشنكوف» تتصدى للدبابة، بل لأحدث الدبابات، في مجاهل عسير ونجران والتحيتا، وتنخر معسكرات الأعراب المسورة بأسلاك كهرومغناطيسية مؤللة بأجهزة استشعار كروإلكترونية... وكذلك ما يجترحه المقاوم في غزة، ذلك المقاوم الذي أفسد على عبّاد التطبيع لذة الركون إلى طغيان قوة الكيان الصهيوني، الذي روجت له الإمبريالية العالمية بأنه «قوة لا تُقهر»، فقُهر مخزياً ومخجلاً ومشمتاً، ولم ولن يكون بإمكان أي مركز استراتيجي اللجوء إلى أسباب منطقية موضوعية لتفسير ذلك!
ومن هنا كتب عباس محمود إبراهيم العقاد (1889-1964) «عبقرياته» الإسلامية: «عبقرية محمد» و»عبقرية أبي بكر» و»عبقرية عمر» و»عبقرية علي»، وقبل ذلك «عبقرية المسيح» و»عبقرية خالد». وإذا كانت العبقريات ماثلة في حزم أبي بكر وحسن سياسته إزاء مرتدّي «اليمامة»، وفي نجاح خالد في قيادته العسكرية، وفي فقه علي مدينة العلم وحسن وصوابية فتاواه الفقيه، فإن كثيراً من النقد قد وُجه للكاتب العقاد، الذي لم يفرق بين عبقرية إنسانية تستمد إمكاناتها من نبوغ إنساني، وأخرى من وحي سماوي، فسيدنا محمد وأخوه سيدنا عيسى عليهما السلام نبيان رسولان يستمدان استثنائيتهما من مطلق القدرة، وليس من نفثات عبقر، ولنا غداً لقاء.
العبقري -إذن- هو الإنسان الذي يأتي بشيء خارق للعادة في أي مجال من مجالات الحياة، فجامعة القاهرة -على سبيل المثال- هي ثاني أقدم الجامعات المصرية 1827م تخرج فيها عشرات الألوف من حين تأسيسها حتى الآن، ولكن لم يتكرر طه حسين في إبداعه وعبقريته، فهو موسوعي، كتب في نقد الفكر ونقد الشعر والتاريخ الإسلامي كتابات مثيرة أحدثت هزة كسرت كثيراً من الثوابت والقواعد، وظهر من خلال ما كتب أن له شخصيتين اثنتين:
• الأولى: شخصية حادة مشاكسة، كما في «الشعر الجاهلي» الذي صدر عام 1926، والذي دخل المحاكم والنيابات بسبب إنكاره فيه الشعر الجاهلي، وبعض الثوابت الدينية، مما اضطره أن يحذف بعض فصول الكتاب ويغير اسمه من كتاب «الشعر الجاهلي» إلى «في الأدب الجاهلي»، فشخصيته هذه هي في هذا الكتاب وكتب أخرى مثل «الفتنة الكبرى (علي وبنوه)» و«حديث الأربعاء» و«من حديت بين الشعر والنثر» و«الوعد الحق» و«الشيخان» و«صوت أبي العلا» و«مستقبل الثقافة في مصر»...
• الثانية: شخصية فكهة ساخرة ضاحكة مرحة باسمة ظهرت بشكل واضح من خلال كتابه «الأيام» (3 أجزاء)، الصادر عن دار المعارف، الدار الناشرة كتبه جميعاً، ولقد تناول فيه بعض معالم أثرت في شخصيته تأثيراً واضحاً، واستطاعت هذه المعالم التي يبدو أنها صنعت شيئاً من التوازن في هذه العبقرية الفذة تتمثل في سخريته من:
• فقيه القرية، أو «سيدنا»، هذا الرجل النهم الأكول الذي يستغل تلامذة كُتّابه، أو «المعالمة»، لإشباع بطنه المنتفخة التي يصدر عن امتلائها زفير وشهيق وشخير.
• علماء الأزهر وتقعرهم في إملاء كتب هي متون لها شروح لها حواش ولها تعليقات.
• استغلال بعض رجال التصوّف للريف المصري من خلال ظهورهم مظهر الصلاح وأهل الكرامات.
لقد كان أبو عثمان الجاحظ، عبقري القرن الهجري الثاني، شبيهاً ونظيراً لطه حسين، أو كان طه حسين شبيهاً ونظيراً له، فلقد كان الجاحظ شخصاً جاداً في «البيان والتبيين» و«الحيوان» و«الرسائل»، وظهر شخصاً هزلاً ساخراً في «البخلاء» الذي صور فيه أصحاب الشعوبية من الفرس وغيرهم الذين ناصبوا العروبة العداء، وهكذا تتمثل العبقرية في الجاحظ.

أترك تعليقاً

التعليقات