د. محمد النهاري

د. محمد أحمد النهاري / لا ميديا -
تثير عبارة المصطلح (TERM) كثيراً من القضايا، فلسفية واجتماعية. ولقد ثارت ضجة في الصدر الأول العباسي، حين اقتضت الحاجة تدوين العلوم التطبيقية والنظرية، وربما كان الداعي لهذه الضجة اختلاف كثير من العلماء حول “اللغة الإنسانية”: هل اللغة توقيفية أو اصطلاحية؟ وذهب التوقيفيون إلى أن الأصل في اللغة البشرية توقيفي، انطلاقاً من قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) (البقرة، 31)، وليس البشر إلا متوارثين لهذه اللغة التي علمها الله آدم، بينما ذهب الوضعيون إلى أن اللغة تواضع واصطلاح، بمعنى أن اللغة ما يتفق عليه مجموع الناس. ونتجت مسألة أو قضية أخرى، هي: هل القرآن معجز بلفظه ومعناه أم بلفظه وحسب؟ ولم يثبت ما ذهب إليه المتكلفون في أن الإعجاز باللفظ والمعنى معاً!!
فاللغة نشاط بشري تواضع عليه مجموعة من الناس للتمييز بين الأشياء، كما يذهب إلى ذلك الإمام السيوطي (1445-1505) إلى نص على أن اللغة “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، فاللغة في هذا المنطلق مواضعة اجتماعية، فإذا كانت توقيفية فلماذا كل مجتمع له لغته، ولن يكون لعبارة “شجرة” العربية مرادف آخر ككلمة (TREE) الإنجليزية؟
لسنا هنا في إطار البحث حول قضية توقيفية اللغة أو مواضعتها، وإنما نريد أن نخلص إلى أن تحديد المصطلح شيء ضروري للتمييز بين الأشياء، فعبارة القهوة ليست عبارة المنزل أو السيارة أو الحمار... الخ.
في مجال الطيران اقتضت الضرورة أن يحضر المسافر إلى المطار قبل الرحلة بساعتين، ليعرض على الشركة أوراقه من جواز وتذكرة وأغراضه الأخرى. كما أن على قائد الطيارة أن يحضر قبل ساعتين أو أكثر، ليحدد بشكل دقيق الوجهة التي يريدها، كما يحدد حركة الرياح وسرعة الطيارة في هذه الرحلة والمسافة التي تتيح له الحركة ارتفاعاً أو هبوطاً والمطارات التي يمكن أن يلوذ بها حين حدوث طارئ للطيارة أو الركاب، ودون هذه الترتيبات لا يمكن أن تسير الرحلة!!
في الحياة العامة والخاصة لا بد أن نحدد المصطلح تحديداً دقيقاً أو مقارباً كيلا تختلط الأمور وتبهم الأشياء، فعلى الشاب أن يحدد معنى الأسرة إذا ما أراد الزواج، وعلى الأستاذ أن يحدد معنى الدرس الذي سيلقيه على الطلاب، وعلى الحاكم أن يحدد مفهوم الثورة والتغيير الاجتماعي، وعلى الحزبي أن يحدد مفهوم المعارضة، وعلى التاجر أن يحدد مفهوم الكماليات والضروريات، وعلى أمين العاصمة أن يفرق بين مفهوم أو مصطلح العاصمة النموذجية والعاصمة “الخردة”...!

 مفهوم الثورة:
أنطلق من هذه المقدمة لأقف عند مصطلحات بحسب إمكانات صحيفة سيارة لا تتيح الفرصة لبحث قضايا لصيقة بالبحث الفلسفي أو اللغوي!! وأول هذه المصطلحات مصطلح “الثورة” (Revolution) ومعناها البسيط: التغيير الشامل في كل المجالات، وخاصة تقويض النظام السابق بكل بناه الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، وما لم تقم هذه الثورة بالتغيير الشامل فإنها تكون ثورة منقوصة تتيح فرصاً سانحة لثورات مضادة لتنقض عليها بكل سهولة، لما تخلقه من صراعات بينية داخل هذه الثورة نفسها، ولما تتيحه للقوى الانتهازية أن تعبث بالمسار الثوري خدمة للأجانب أو الوطنية “المصلحية” الخاصة.
ولقد فهم قائد الثورة اليمنية المعاصرة، السيد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي، مصطلح الثورة فهماً مقارباً جعله يوضح الفكرة توضيحاً بأنها التغيير الجذري.
ولقد ذكرت في مقال سابق أن هذا التغيير لن يتم بين يوم وليلة، ولكنه يحتاج نضوجاً زمنياً يستدعي فيما يستدعي آليات للتغيير، منها:
أ) كفاءات مفهومية لمعنى الثورة والتغيير، ورأيت (وجهة نظر) أن يدعى اليمنيون للاتفاق على أولويات هذا التغيير بشكل ديمقراطي محترم.
ب) فهم مشترك لمجموعة التغيير، أعني ألا يكون تصادم فكري بين أفراد هذه المجموعة لنضمن سلامة الاتجاه وواحدية القرار.
جـ) أن توجد صيغة سلوكية، وأعني بها القوة الحقيقية لتكون محل تقدير المجتمع، وبدون القدوة لين يستجيب المجتمع لأي تغيير!!
د) عدم حرق المراحل، فينبغي أن يكون التغيير متدرجاً، وقد كان حرق المراحل سبباً في فشل ثورة اليمن في الجنوب بدل الاستقلال، إذ علت البزة الماركسية متجاوزة وصفاً اجتماعياً لم يُراع بعبارة عبر بها أحدهم: “لا محمد في الشمال ولا ماركس في الجنوب”، وكانت أحداث يناير 86م وما سببته من مأساة دليل فهم خاطئ لقراءة المصطلح، إذ انقسمت هذه القراءة لمليشيات مسلحة تقاتلت بالمدرعات في شوارع عدن، وما زالت القراءة غير مفهومة حتى الآن.
ومن فقه الثورة أنه لا بد أن يقرأ الثوريون أو الثائرون ملابسات الزمان والمكان، وأن يكون هناك فقه للأولويات والأوليات معاً، وأن يعمل هؤلاء حسابات للتجاوزات التي قد تعرقل المسار الثوري.
وسخر المرحوم عمر الجاوي من الذين فهموا مصطلح “التأميم” خطأ فأمموا “صنادق الشاي ومحلات الحلاقة”!!

 المسيرة القرآنية:
قبل أن أقارب مفهومياً هذا المصطلح لا بد من إشارة تاريخية، وهي أن هذه المسيرة واجهت من أول يوم شعارها حرباَ ضروساً بدبابات البر وسلاح الجو وشراء الذمم.
بدأت هذه الحرب بدعم سري من أمريكا بواسطة العدو السعودي سنة 2004، وجهرياً بعد قصف أنصار الله لأعداء الله بعد يومين من بطولة فلسطين في السابع من أكتوبر السنة الماضية، ولأول مرة يتحدى قطر عربي إمبراطورية بحكم أمريكا والصهيونية العالمية، لتستخدم هذه الإمبراطورية الضخمة الفخمة كل أساطيلها المتحركة وزعماءها الوكلاء في المنطقة أعراب الخليج و”سيسي” مصر لقصف صنعاء والمحافظات المحررة من العملاء والذيول الاستعمارية. وكانت هذه الحرب اتخذت وسائل تفشي الطائفية والقبلية والدينية في الإعلام العبري باللهجتين العربية والعبرية ومنبر الحرمين الشريفين بقيادة آخر ذيول الوهابية ورأس لجنة إفتاء “الترفيه” (السديس).

معنى المسيرة القرآنية:
تعني -فيما فهمت- حركة الدولة نظاماً مؤسسياً محكوماً أصلاً وفرعاً بأحكام القرآن الكريم، فالاتجاه العام اتجاه سلوكي نظري وتطبيقي بما يسير وفق منهج الله وشريعته التي هي هداية للعالمين باعتبارها الصراط المستقيم غير المغضوب عليهم والضالين.
هذه هي المسيرة القرآنية التي مثلها على مستوى القدوة سيد الخلق محمد بن عبدالله الذي كان خلقه القرآن. ومعنى السيرة القرآنية -كما فهمت- أن يسير المجتمع كله ودون تجزئة أو انتقائية حكاماً ومحكومين وفق “افعل ولا تفعل”، و”لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها”، و”إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”، “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي”، “لا فضل لعربي على عجمي إلّا بالتقوى والعمل الصالح”. مسيرة قرآنية رشيدة ذعر منها الشيطان وفرح بها المؤمنون المستضعفون، لا غلو فيها ولا عقبات، كلها ضوء ونور ورحمة وحنان ومودة.

 التغيير الجذري:
يهدف هذا المصطلح (وهو هدف من أهداف المسيرة القرآنية) إلى إحداث وعي يقف المجتمع فيه على حقيقة أن المسيرة القرآنية وجدت لاجتثاث السلبي فيما مضى، ليس من عقود بل من قرون سلفت، واستشراف مستقبل كريم.
إن الشعوب -رغم ما فيها من غوغائية وجهل- تدرك أن التغيير نظام شامل، وإنها تدركه وقت أن ينشأ قبل أن تعلنه وسائل الإعلام. وقلت لصديق، وهو يحاورني: إن من مصاديق المسيرة القرآنية إلغاء المقارنات بين سابق ولاحق، وتيسيراً لهذا المنطلق فإن الشعب كله أو بعض منه عند أن يقارن بين وجود المرتبات في العهد السابق وليس الآن، وعند أن يقارن بين تصرفات بعض أقول بعض المتنفذين الآن بشيء من الصلف والغرور على نحو لم يكن موجوداً بهذه العلنية فإن هذه المقارنة تدفعنا جميعاً لإيجاد عنوان في صحيفة هذه المسيرة القرآنية، ألا وهو عنوان القوة ومهمة الجهات الاختصاصية اتخاذ ما يوافق عدم المقارنة بين نظام وآخر... الخ.
وحتى الآن -فيما يبدو- توجد كوابح “هندوانية” تشد عجلة المسيرة إلى الوراء ما لم تتخذ قرارات شجاعة بحقها فإن المسيرة لن تسير خطوة واحدة إلى الأمام.
ما يقرره الواقع أن أي ثورة من الثورات عانت من أبنائها أكثر مما عانت من أجانب، ولم تكن فئة المنافقين في المدينة إلّا مثلاً يسيراً لهذه الفئة التي يعلو صوتها عند ترديد الصرخة!!
وليس آخراً، فإن فهم المصطلح فهماً صحيحاً حتماً سيوفر علينا الجهد والمال والزمن نحو انطلاق مسيرة موفقة راشدة. والسلام.

أترك تعليقاً

التعليقات