عنوان الإنسان الأعلى
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
تظل الحركة الجوهرية حقيقة في الوجود، بها كان الوجود نفسه خيرًا محضًا، وكلّما تدانى الوجود وتكدّر، انعكس ذلك على مراتب الحركة، فهي في الإسراع والبطء بحسب مراتب الوجود، إنّ الحركة تجلّ للخير الوجودي، وإذا تحرّك الجوهر ظهرت منازل الوجود وحقائق المعرفة.
لازال العالم غير قادر على الأُنس بالحركة، لازال يرى السعادة في الثبات، لازال ينظر إلى الاستقرار كثبات، وهو وَهْمٌ حتى في منظور توازن القوى ميكانيكيًّا، فكم من نشاط تفرزه القوى لتحقيق التوازن، الاستقرار حركة، في السياسة والاجتماع والقيم. هذا الكائن في خبرة الوجود كمن يمشي فوق حبل يتطلب مهارة فائقة في التوازن، في عدم الوقوف، في العبور، ممشى الوجود من الخطورة بحيث من “تثابت” سقط.
وعليه قالوا: يولد معنى الإنسان بوصفه كائنًا شهيدًا بالقوّة مهما تخالفت تجاربه بالفعل، الإنسان وحده من يملك أن يُشهد الوجود على أنّ مبدأ ما متعاليًا هو غاية بها تتقوّم كينونته، تماهي مع المبدأ، واندماج مع القيم تتقوم به ماهيته المكتسبة. إذا كانت الشهادة بها يتعرّف الإنسان من حيث هو كائن شهيد بالقوّة، فكيف حين تتحقق الشهادة بالفعل؟ سيكون إذّاك قد بلغ كمال الإنسانية. وحيث إنّ الإنسان شهيد بالقوّة، أي أنّ الشهادة هي شهادة كماله، فإنّ الإنسان بات بهذا التعريف كائنًا تاريخيًّا، أي لشهادته تاريخ، ولتاريخه شهادة، وهو وحده يملك أن يُكسب الوجود من حوله معنًى تاريخيًّا، ذلك لأنّه خُلق للكمال. ولئن كانت الحركة في غيره من الأنواع الدنيا قد يتحقّق فيها التّرقّي بانقلاب الماهيات، فإنّ الحركة في ذاته يتحقّق فيها الترقّي بالكمال حيث التميّز لا يلغي الاشتراك والماهية المنحفظة، مما يعني أنّه كائن مخلوق للكمالات.
إن كان الإنسان الأعلى في منظور نيتشه هو عنوان كمالات كائن ليس له خيار سوى الترقّي أو الضّحالة، فإنّ الشهادة هي عنوان الإنسان الأعلى الذي يقابله عنوان الإنسان الأخير، ذلك الإنسان الذي لا أفق له ولا كمال، وكأنّ همّه علفه، بلا قيم ولا غاية، حتى إنّه فاقد للإحساس بالوجود. إنّ الشهادة ترقّي في الوجود وليست خاتمة للوجود، لهذا كان الشهيد حيًّا ما بقي الليل والنّهار، وعنوان خلود ما طلعت الشمس وهبّ النسيم. إنّ حاجة التّاريخ للشهادة والشهيد لا محيد عنها، يعني أنّنا وبالمنظور الهيغلي للتاريخ كصراع ومقاومة وجدل مفتوح بين السادة والعبيد، وبما أنّ الشهادة هي عنوان التّحرّر فإنّ الشهيد يمنح التّاريخ الهيغلي معنى نقيضًا يجعل حالة الاعتراف في هذا الصراع الأبدي بين السادة والعبيد لا تقف عند القدرة على المخاطرة وحتمية الإذعان، بل تمنح التّاريخ عنوان المقاومة والصمود والكفاح، وهو طريق ثالث، لكسر الثنائية الجدلية، حيث الشهيد وحده يربك جدل التّاريخ الهيغلي ومكره، لأنّه يملك تقويض مفهوم المخاطرة عند المستكبرين ويُنشئ معنًى للحياة في مشهدية لا تتحدّد بمصير الجسد. إنّ الشهادة مقوّم للأنسنة، وعلامة على التّحرّر.

أترك تعليقاً

التعليقات