شيبة الحمد في حضرة الحقيقة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لأننا غُذينا منذ أن جلسنا على كرسي المدرسة، بالخرافة، فلن يكون التسليم بالحقيقة التي غُيّبَتْ عنا بالأمر السهل، حينما يصل إليها أحدنا وقد بلغ أصغر واحدٍ في جيلنا الثلاثين أو الأربعين. هذا في ما يتعلق بالقضايا والأحداث المعاصرة، فما بالك بالأحداث التاريخية القديمة، التي شكل انبثاقها مقدمات طبيعية هيأت النفوس والواقع الخارجي لاستقبال مولد خير البرية محمد رسول الله (ص) وجرت العادة على تلقينها للأجيال جيلاً بعد جيل، ومنذ الصف الأول الابتدائي، وقبل أن يتمكن الفرد منا من معرفة كيفية الإمساك بالقلم، ناهيك عن أن يقدر على كتابة حرف واحد؟! لكنه قد تم حشو ذهنيته بكل تلك الأحداث الهامة، وللأسف بطريقة معكوسة، إذ حلت الخرافة، والأحداث والقضايا والشخصيات المختلقة، محل الحقيقة والأحداث وصانعيها ورموز التحولات الكبرى، وحملة لواء الوحدانية، والمؤتمنين على احتضان سيد الخلق خاتم النبوات، وتمام الحق، المبعوث رحمة للعالمين، قد صاروا مجرمين منحرفين، شذاذ آفاق، محاربين للحق وأهله. فكلنا لم يستقر في كيانه شيءٌ مثلما استقر فيه ذلك التصور عن أبرهة، الذي ما إنْ وصلنا إلى سورة الفيل، حتى رأيناه وحشاً، متعدياً على الأعراض والمقدسات، جالباً فيله لهدم الكعبة، لكن سرعان ما يقضي الله عليه، بتلك الأحجار، وتلك الطير، ومثلما زرعوا في نفوسنا العداء لأبرهة الحميري، زرعوه لجبريل (ع) الذي رأيناه في سورة العلق كيف كان يتعامل مع النبي، وقد كاد أن يقتله.
ولكن قد يستسيغ بعضنا مسألة تنزيه روح القدس، جبريل عن هذه الخرافة، بل ويعمل جاهداً على رفض هكذا تلفيقات على أمين وحي الله إلى أكرم رسله وإمامهم، ويستبعد أن تكون هذه القصة هي التي تحتوي المعالم التي بموجبها تم تكليف النبي محمد (ص) بحمل الرسالة الخاتمة العالمية، وهو محق في ذلك، لكن لماذا لم ندرك أن مَن لم يسلم منه ملائكة السماء، لم يسلم منه كل ما هو حق أو مثال له في الدنيا كلها؟
الأمر الذي يحتم علينا إعادة النظر في أبرهة، ومن واقع الاعتماد على الحقائق التاريخية التي اشتمل عليها كتاب (الرحمن اللّغز الأكبر) لنشوان دماج. الذي لايزال يطلعنا على فصول قصة الحدث الحقيقي المتناسب مع اقتراب مولد سيد الثقلين، فهذا شيبة الحمد، عبدالمطلب يقف في حضرة الملك الحميري، مباركاً له الخلاص من غزو منوفيزي عبث باليمن والجزيرة، لا محاولاً استرجاع إبله، متنصلاً من الدفاع عن بيت الرحمن، لقد جاء مستبشراً مظهراً ما تم بيد أبرهة من خير عم الموحدين، ولم يأت مسترحماً خائفاً على ضياع جمل أو حتى ألف.
وإذن أبرهة هو: سند الرسالة وملاذ الموحدين، ورأس الممهدين لنور محمد. ولننظر فقط إلى هذا النص من كلام عبدالمطلب مخاطبًا ذلك الملك: «قد أحلك الله محلاً رفيعا منيعا صعبًا شاما باذجًا، وأنبتك منبتا طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن. وأنت أبيت اللعن، رأس العرب الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، وربيعها الذي تخصب منه البلاد. سلف خير سلف، وأنت فيهم خير خلف، ولم يخمل ذكر من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه. ونحن أيها الملك، أهل حرم الله والبيت الحرام، أشخصنا إليك أيها الملك، الذي أبهجنا من ذكر ما سرنا من كشفك الكرب الذي فدحنا، والغم الذي أقلقنا والهم الذي أكربنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة...».
فهذه القصة مثلما قلنا تنطبق على الملك أبرهة لا على الوهم سيف الذي لم يتفق الإخباريون ولا الباحثون على اسمه ولا على اسم أبيه، فتراهم يلفقون له كل واحد منهم اسما على هواه وأولهم نشوان الحميري الذي يقول في موضع من كتابه: «واسمه ذو يزن بن عثمان بن عفير بن زرعة بن الحارث»، وفي موضع آخر وهو يتحدث عن محاربة الأحباش بعد مقتل ذي نواس بأن الملك أبا سيف هو» النعمان بن عفير»، ليستشف الباحثون من تلك الروايات المتضاربة أن سيفا هذا لا بد أن يكون هو «أبو كرب سميفع أشوع» باعتبار أن سميفع أشوع هو «النعمان أو عثمان بن عفير»، وباعتبار أن أبا كرب هذا ورد ذكره في نقش أبرهة بأنه من ضمن المتمردين مع يزيد بن كبشة، هذا ناهيك عن تضارب الإخباريين في كون سيف هو الذي ذهب إلى كسرى، فيما يقول آخرون إن أباه هو الذي ذهب إلى فارس فلحقه سيف، مع ما في تلك الروايات من إهانات لا تجعل من سيف رأس العرب الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، وربيعها الذي تخصب منه البلاد».

أترك تعليقاً

التعليقات