فلسفة التاريخ من منظور حسيني
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لقد تغلب الحسين على التاريخ والعصبية وعلى العمران الفاسد كله، ليخلد ويصبح هو مصدر سلطة وغلب عبر التاريخ الإسلامي. إن الحدث الحسيني اليوم فضلا عن أنه أصبح عنوانا لآية، فهو الحدث الذي كذب فلسفة العمران الخلدونية وجعلها قاصرة ومحصورة وغير قادرة على استشراف الزمان. فمن رآه ابن خلدون منزوع العصبية أصبح مالكا لعصبية الإنسانية كلها، لأنه أصبح عنوان كل القيم الإنسانية النبيلة التي قامت عليها حضارة الإنسان في أكبر ثورة تحررية في العالم الحديث. ومن خطأه ابن خلدون على الخروج ثبت أنه سعى للانتصار على الطغيان الرمزي لا على يزيد وعصابته فحسب، بل على كل طغيان قريب أو بعيد.
فأين هو ابن خلدون؟ لنقول له: لقد تسلط يزيد على أمة محصورة في الزمان والمكان بينما سلطان الحسين الرمزي تعدى الزمان والمكان فصار حدثا كونيا. إن الحسين فجر ثورة أكبر من أن تستوعبها فلسفة العمران الخلدونية. والدليل على ذلك أن تاريخك  أصبح تقليديا بينما ثورة الحسين أصبحت راهنية وحيوية، بل غدت عنوان فلسفة وثقافة للمستقبل تجاوزت زمانها وتجاوزت مكانها، لذا هي حدث حضاري بامتياز.
ثورة الإمام الحسين (ع) هي التي منحت الشهادة هويتها القدسية المتعالية، والدور التاريخي الذي لعبه بطلها الإمام الحسين، الذي استطاع بشهادته المتميزة أن يكسب الشهادة عمقاً إضافياً، فمعه لم تعد الشهادة تصوراً مجرداً، أو إطاراً مثالياً لفكرة ودور، وإنما تحولت إلى واقع حي، واقع مقدس ومتعال.
ولأن الإمام في التصور الإسلامي الأصيل يشكل المثال البشري الأعلى الذي يجب التماهي معه، فإن الإمام الحسين تحول إلى نموذج للتماهي في طريقة الحياة والموت معاً.
كما أن التركيز التاريخي المتواصل عبر سلسلة الأئمة على عمق الحضور العاشورائي في الحياة زماناً ومكاناً، حيث إنه -حسب تعبير الإمام الصادق- أعطى التماهي اليومي مع الحسين، حياة وموتاً، إمكاناً ممتداً على طول الزمان، واتساع المكان.
وبما أن الحسين اختصر أهداف عاشوراء الخالدة بعنوانين مركزيين هما: العمل بسيرة جده وأبيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان سلاحه المركزي لتحقيق تلك الأهداف هو الموت: خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتا، فإنه وإن كان المصداق العاشورائي يتنوع بحسب طبيعة الزمان والمكان، إلا أن الموت كسبيل إلى إنجاز الأهداف سيبقى الفعل النوعي لهذا الحضور.
وأهم ما في واقعة عاشوراء، وحضور الإمام الحسين فيها، أنه أبان بدوره المميز عن فلسفة خاصة للتاريخ، هي فلسفة الأديان والرسالات السماوية، والأنبياء والرسل. هذه الفلسفة التي تبدو أنها تقيم تاريخ الأمة الإسلامية على أساس من التضاد والاختلاف بين عدة أقطاب مختلفة: المعروف والمنكر، الاستكبار والاستضعاف، الله والطاغوت، الشرك والوحدانية، الجور والقسط.
والزمان، وفق فلسفة التاريخ هذه يبدأ بالحرب، وينتهي بالحرب، من قابيل حتى آخر الزمن.
من هنا، فإن التاريخ وفق هذه الأيديولوجيا، تاريخ الثأر لهابيل وكل عهد من عهود التاريخ، إنما هو مسرح هذه المعركة الدائمة: كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء، وعليه ففي أي عصر وأي جيل، وفي أية نقطة على سطح الأرض يتواجد فيها الإنسان، فإن «سبيل الله» و«سبيل الطاغوت»، لا ينفكان يختلفان يتقابلان ويصطرعان، داعيين الناس لنصرتهما، متمثلين بوجه حسيني ووجه يزيدي. فماذا تعني هذه الفلسفة في التمثل الجهادي؟ إنها تعني -وفق هذه الفلسفة الأيديولوجية- أمراً واحداً أنه لا بد لأي فرد أو جماعة، في أي عصر ومصر كان من أن تجد نفسها مترددة ما بين تيارين أو قضيتين، أو أن تختار بينهما: فهناك تيار الحسين، وما يجسده من قيم ومبادئ، وهناك تيار يزيد وما يجسده من انحرافات وضلالات بكلمة أخرى، إن أي فرد أو جماعة سيمسكان بهويتهما الخاصة في قلب هذا الاختلاف التاريخي بطابعه الصراعي، ولا معنى لأي منهما خارجه.
وهكذا تدخل موازين الاختيار في صلب اللاشعور واللاوعي لدى كل حر حسيني، أي أن حدية المواجهة ومستلزماتها العقيدية والدينية المرفودة بالمواقف الفقهية، تجعل الإحساس بالظلم والمظلومين مرهفاً، وتجعل الامتثال لجانب الحق وقيم الحرية والكرامة والعزة امتثالاً يرتقي إلى درجة العبادة.

أترك تعليقاً

التعليقات