لهذا سُجِن
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
مَن يقف بوعي نزاعٍ لاكتشاف الحق، وإيمانٍ خالصٍ بالله، على كتابات ومحاضرات الباحث الإسلامي الحر حسن فرحان المالكي، فك الله أسره؛ يدركْ أن سجن بني سعود له، وبالتالي ضرب الأسوار والموانع حول أفكاره؛ لم تكن مجرد رغبة وهابية سعودية خالصة، وإنما كانت إرادة مذهبية عامة لمختلف الفرق والمذاهب الإسلامية. لماذا؟
لأن المالكي تجاوز كل المذاهب، بعد أن كسر أهم معبوداتها، وهو الفقه، ووصل إلى ضفة نهر الإسلام الإلهي، وابتدأ يكشف أن معظم ما لدى المسلمين من أفكار ومفاهيم في معظم العبادات والمعاملات هي من صنائع الإسلام البشري، إسلام الحاكم والملك، إسلام السلطة عبر التاريخ. من ذلك مثلاً مفهوم المسلمين عن الزكاة، التي أفسدت السلطة المعنى القرآني لها، الذي هو أشمل بكثير من اختصاره في نسبة ربع العشر، أي أن الأدلة القرآنية قائمة على أن الزكاة بالمفهوم القرآني واجبة على الجميع، الغني والفقير، وعلى الغني زيادة زكاة في الماديات، فالزكاة بالمفهوم القرآني تعني تطهير النفس من مساوئ الأخلاق وتزويدها بمحاسن الأخلاق، كما قال تعالى: «قد أفلح من زكاها»، ولا ريب أن من تزكية النفس، تزكيتها الشاملة، معنوياً ومادياً، ثم من التزكية المادية إنفاقها مما أعطاها الله من المعاني المادية كالمال لطرد البخل والشح وكنز المال... إلخ، وكذلك تطهيرها من المعاني المعنوية كتطهيرها من الكبر والحسد والكراهية... إلخ.
ويتحدر من ذلك المعنى القرآني الشامل شق مادي، وهو الصدقات الواجبة (وهي أوسع مما يقوله الفقهاء عن تلك النسبة 2.50٪). ولكن لماذا عملت سلطات التاريخ على تقزيم الواجبات القرآنية؟
يجيب المالكي بأن السلاطين كانوا تجاراً في الجملة، لذلك كان تقزيم أوامر الله كبيراً جداً، وهذا المعنى الإلهي الذي غيَّبَهُ الإسلام البشري استجابة لواقع السلطات والأثرياء والوجهاء والأعيان عبر التاريخ نموذج فقط.
والسلطات بحسب رأيه عبر التاريخ لأنها جاهلة فهي لا تفهم إلا الجاهل ولا تفهم العالم والفقيه والعاقل، فتجعل من الخطيب المفوه عالماً، ومن رافع الصوت حريصاً، ومن الباكي الأحمق خاشعاً، ومن الزاهد في المال ورعاً، وإن كان متجرئاً في استباحة الدماء وتحطيم سماحة الإسلام.
فالجهلة يفهمون بعضهم كفهم الأطفال لبعضهم، هذا إن أحسنا الظن، أما إذا أسأنا الظن، فنقول إن السلطات والفقهاء عبر التاريخ يشرعنون لبعض، فالسلطات تعطي من تظن أنه يخدمها لقب «العالم والفقيه» والفقيه يعطي للسلطات الشرعية والدعاء، وكلاهما يتوجس من العالم الناصح الشفيق العاقل، لأنهم يجهلون علومهم (والناس أعداء ما جهلوا ومن جهلوا)، فيعدون كل من يخالفهم في الفقه والعلم شاذاً وخارجاً عن الفهم السطحي العام ومن شذ شذ في النار!
هي حبكة شيطانية قديمة يزين لهؤلاء وهؤلاء الوقوف صفاً واحداً ضد كل معلومة تخرب عليهم معبد الكرسي وكرسي المعبد، ويقنعهم أنهم في جهاد عظيم عندما يجتمعون ضد هذا الذي يأتي بشيء لم يجدوا عليه الآباء والأجداد! حتى ولو كان هذا صريحاً في كتاب الله، لأنه يستحيل عندهم أن يفوت هذا المعنى الصريح الواضح آباءهم وأجدادهم الذين يتوهمون أنهم بلغوا مبلغاً عظيماً!
«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (البقرة: 170).
ومع أن القرآن الكريم كان صريحاً في إطلاقه تسمية «الصدقات» على ما تسميه السلطة وفقهاؤها «زكاة»، كما في قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (التوبة: 60).
فإن الله يسميها هنا «صدقات»، والسلطة جعلت «الصدقات» في هذه الآية هي «الزكاة» نفسها! لأنها تضغط كل الألفاظ في لفظ واحد، فلا وقت عندها للتفريق بين الألفاظ القرآنية.
والخلاصة هنا أن الصدقات هي ما تأخذه الدولة من الناس (أي الزكاة بالمفهوم الشعبي العام)، كما في قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (التوبة: 103، 104).
قال خذ صدقة ولم يقل «خذ زكاة»، لأن الزكاة موضوع كبير لا يؤخذ قسراً وإنما القسم الأكبر منه يؤديه العبد طواعية ليزكي نفسه، وليس موضوعها مالياً فقط، والواجب المالي في الزكاة أكثر من الواجب المالي في الصدقات، فالواجب المالي في الصدقات هي ما تأخذه الدولة قسراً (2.50٪)، وأما الواجب المالي في الزكاة فيشمل الصدقات وعدم الكنز وإنفاق ما فضل عن الحاجة وصدقة التطوع... إلخ، إضافة للشق المعنوي من تطهير النفس جملة من رذائل الأخلاق ومساوئها.

أترك تعليقاً

التعليقات