مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لانزال نعاني كمسلمين من عقل سلفوي تمامي صادر وجودنا، ودمر سياستنا واجتماعنا.
وقد تملك هذا العقل السلفوي التمامي هاجسا خطيرا تجاه مشروع النظام السياسي في الإسلام، بحيث يستبد في مخياله مشروع الشريعة ضمن نماذج لا تستجيب للشرط التاريخي. إنها مشروعية الشريعة التي تطرد من صقع تفكيره كل إمكانية لتفكير شريعة المشروعية. وعلى ما في مشروعه من ثلم وثغرات يحكمها المخيال الحالم،‏ لا الفقه العملي،‏ فإنه يرتضي تطبيقها، فيجعل وجودها نهاية كل مشروعية أخرى. ذلك بأن فصاماً ‏رهيباً ‏يحدد نظرته للعلاقة ما بين مشروعية الشريعة وشريعة المشروعية، أي بين الإنسان والشريعة. تلك المسافة التي تتحدد بموضوع العدالة والاستحقاق. فحيثما حلت الشريعة، فلا مشروعية بعد ذلك للمساءلة والمخالفة. فظلم مع الشريعة أولى من عدل بلاها. فتبقى الأزمة مستفحلة داخل عقل فصامي مأزوم، لا يقوى على تفعيل العلاقة ما بين مشروع الشريعة وشريعة المشروعية الغائبة واللاّ مفكر فيها.
ليس لدى الإسلاميين نظام سياسي، كون النظام السياسي في الإسلام، مشروعا لم ينجز. ومن هنا فإن ما تزعمه تلك الأطاريح من حيث إن هذا النظام مكتمل وجاهز، ما هو إلا ضرب من الإدعاء، والنزوع خارج المعطى التاريخي.
ولا نبالغ إذا قلنا: إن سلسلة الانهيارات السياسية التي شهدها الكيان العربي والإسلامي وعدد الإخفاقات الكبيرة التي هدّت اجتماعه السياسي عبر تاريخ طويل، مؤشّر واضح على وجود تداع في المفاهيم النظرية، ‏وتهافت في الخطاب السياسي. سيما وأن الإخفاق تمَّ في اللحظة التي التحق فيها صاحب الدعوة بالرفيق الأعلى. أعني أن معايير الانتخاب والتصور السائد -الغالب- الذي يمكن استخلاصه من عموم الشعارات والمحاججات التي شهدتها سقيفة بني ساعدة، توضح بما فيه الكفاية انزياحاً ‏فاضحاً إلى خيار الدولة العصبانية بحسب المنظور الخلدوني. وهو الإخفاق الذي قضى على كل الامتيازات التي حاز عليها مفهوم الدولة -الأمة بمضونها الأيديولوجي والحضاري، كما تجسد بشكل ملفت للنظر في الدولة النبوية النموذجية.
إذن، نحن أمام أطاريح، بمقدار ما تبالغ في معصومية خيارها التاريخي، تحاول إسقاط أزمتها على ما ينافسها أو يخالفها من الخيارات الأخرى. وهي بعد كل ذلك تقف عاجزة عن إجراء القراءة الصحيحة والفعالة لمشكلتها. وذلك بتقريب تاريخي يفصل النص عن التصريف التاريخي له، ويجعل السلطة للنص، لا للممارسة التاريخية المدخولة بكثير من العناصر التحريفية.
إن المسألة الجوهرية في ذلك النزاع الذي قادته تلك الأطاريح حول موضوع الحكم والنظام السياسي وتحديداً ما بين الاتجاه الإسلامي وبين الخيار العلماني،‏تتجلّى في مفارقة فلسفية، تتصل بأصل التشريع، ومصدر تثبيت السلطات. ففيما تنزع الأطاريح العلمانية إلى جعل العقد الحر أساساً لتوطيد السلطات ورسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس الانتخاب، والاجتهاد في القوانين طبقاً لمصلحة المجموع -‏هذا في أفضل حالات العلمانية إذا ما نزعت نزوعاً ديمقراطياً وليس عسكرياً- تجد الأطاريح الإسلامية السائدة، تتحدث عن جاهزية مطلقة في الشرائع، وتنزيل محكم للقوانين،‏ومرجعية متعالية في تحديد النظام. فالسلطة في الأولى للشعب، وفي الثانية هي لله، في الأولى هي للمصلحة وفي الأخرى هي للمطلق. ومع أن الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه سلطة الشعب غارق في العمومية، إلا أنه شهد تطوراً ‏ملحوظاً، جعل مفهوم حكومة الشعب، تشهد تصوراً ‏براغماتياً ومؤسسياً أكثر دقة بالقياس مع أصل الأطروحة. وذلك لأنه أتيح له أن يأخذ حظه في النمو ضمن إدارة فعّالة وممارسة مؤسسية، الأمر الذي لم يُتح للأطاريح الإسلامية، إذا ما توخينا التقييم الموضوعي.

أترك تعليقاً

التعليقات