رُفعـت الجلسة.. الكثـير عـن القضاء والقضاة
- محمد صادق العديني الأثنين , 3 نـوفـمـبـر , 2025 الساعة 12:15:07 AM
- 0 تعليقات

محمد صادق العديني / لا ميديا -
1
فـي البدء:
قال سبحانه في محكم كتابه الكريم: "إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا، وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ، إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًۢا بَصِيرًا" (صدق الله العظيم).
وعلى مر العصور كان هناك الكثير من الأقوال حول القضاء ومن يتولاه. ولعل أكثر المقولات ترسخاً قول رسولنا العظيم: "من ولي القضاء أو جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ؛ رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ".
وقال الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب ناصحاً القضاة: "لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهُديت لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".
وكان القاضي في بني إسرائيل -بحسب الزمخشري- إذا اختصم له خصمان رفع أحدهما الرشوة في كمه فأراها إياه فلا يسمع إلا قوله، فأنزل الله قوله: "سمّاعون للكذب أكّالون للسُّحت".
وكان جلال الدين السيوطي قد قال: "بلينا في عصرنا بقضاة يظلمون الأنام ظلماً عماً، يأكلون التراث أكلاً لمّا، ويحبون المال حباً جمّاً"؛ لذلك لم يبالغ المثل الروسي حين قال ناصحاً بسخرية: "لا تبحث عن محامٍ يعرف القانون، بل ابحث عن محامٍ يعرف القاضي"!
ويقول الفضيل بن عياض: "ينبغي للقاضي أن يكون يوماً في القضاء، ويوماً في البكاء على نفسه".
إن القضاء هو مقياس الخير في الأمم، وهو -بحسب الداعية علي الطنطاوي- معيار العظمة فيها، وهو رأس مفاخر كل أمة حية وراشدة.
ولقد أحسن المفكر العربي ابن خلدون حين قال: "أول أسباب سقوط الدول هو: التفريط بالعدل"!
إذن، فالقاضي العادل هو صمّام أمان لحياة طبيعية وحقوق مصانة. وما لم يكن لهذا القاضي ضمير نزيه وقيم ومبادئ مثلى تحكم سلوكه وتصرفاته، فلا يجور ولا يظلم ولا يسيء ولا يؤذي ولا يقترف أي تصرف أو مع فعل مشين يتعارض مع فطرة الإنسان السوية، فإن هناك خللاً يساوينا مع المسوخ.
لذا أكرر قولي بأن كل قاضٍ لم يحكم بما أنزل الله عدلاً وإنصافاً، فهو مجرم يستحق الإعدام. والقاضي الذي يساند الجناة، ويضيع حقوق المجني عليهم، هو قاطع طريق يجب أن ينفذ فيه حد الحرابة.
إن العدل يا أصدقائي ناموس الإنسانية السوية، والحق شرفها المقدس. لذلك فإن العدالة تحتاج إلى ضمائر حية، وذمم نقية، وأيدٍ نظيفة.
كما أن السكوت عن الحق يغري على الاستمرار بالجور واقتراف المزيد من المظالم والإيذاء والقهر. لذا فإن الذين يدافعون عن اللصوص والقتلة هم أكثر لصوصية وإجراماً.
إن مكانة القضاء عظيمة، ومهمة القاضي مصيرية، ومنزلته كبيرة وسامية. ومع ذلك نجد بعض القضاة مسكونين بُعقد نقص وجهالة، يتصرفون وكأنهم "مشيخ" متنفذ؛ فيتعاملون مع أصحاب القضايا، وخاصة الفقراء، معاملة "السيد والخادم"، أو "الشيخ والرعية"! إذ يملك عليهم حق الأمر والنهي والتحكم بمصائرهم، ومطلوب منهم "السمع والطاعة"!
كما أن القاضي يخطئ حين يتوهم، مأخوذاً بعزة إثمه وعُقد نقصه، أنه محصن من المحاسبة والعقاب، وأن عمله غير محكوم بضوابط وأعراف عليه ألّا يتجاوزها؛ لأنه إن فعل يصبح منفلتاً وفاقداً لولايته كقاضٍ نزيه مهمته الجوهرية تحقيق العدالة وإنصاف المظلوم. ولست أتجاوز حين أقول إن وراء كل قاضٍ فاسد محامياً مُفسداً وأمين سر سمساراً!
اللهم إنَّا نعوذ بكَ من جلد الفاجر، وعجز الثقة.
2
هـنـا تـبرز أهــم الأسئلــة:
من هو القاضي الذي يستحق العزل والمحاكمة؟!
للإجابة على ذلك أقول إن هناك -للأسف الشديد- نماذج كثيرة؛ ولكننا سنذكر هنا أبرز تلك النماذج التي صادفناها من خلال تعاملنا المباشر، إذ وجدنا أن القاضي الذي يستحق العزل والمحاكمة، هو:
1 - القاضي الذي يصرح برأيه وقناعته المسبقة تجاه قضية لا تزال في طور تحقيقات النيابة، ثم يبذل مساعيه لتحول القضية إليه حتى يحكم بها!
2 - القاضي الذي يتصرف في قاعة المحكمة بطريقة تُجبر المتخاصمين على الحضور إلى مقيله الخاص كي يحل القضية المنظورة أمامه، وكأنه شيخ ضمان أو محكم!
3 - القاضي الذي يتصرف بحسب أهوائه الشخصية، ويقضي بما يحدثه جلساء مقيله وخاصته!
4 - القاضي الذي يتعامل مع أصحاب القضايا بغرور وكِبر، ويسلك مع المتخاصمين نهج جانح غير سوي، فيشتم هذا ويسب ذاك ويهين الناس!
5 - القاضي الذي يماطل في النظر بالقضايا، وخاصة الجنائية، فيطول في الإجراءات ويسوّف بالقرارات، تاركاً الفرصة للجناة كي يمارسوا ضغوطاتهم ترغيباً وترهيباً مع المجني عليهم ومع شهود الوقائع!
6 - القاضي الذي يرهب المجني عليه ومحاميه أو وكيله أثناء النظر في القضية، فلا يترك له فرصة لشرح مظلوميته وتقديم أدلته وبراهينه، بل قد نجده وبلا خجل يشير بالنصح علناً للجاني بأن يعمل جهده ويمارس نفوذه كي يقبل المجني عليه الصلح والتنازل!
7 - القاضي الذي يقرب منه بعض المحامين والوكلاء ويحرص على التعامل معهم بصورة تميزهم عن بقية المحامين والوكلاء، فيسمح لهم بما ليس مسموحاً، وبالتالي يتحول هؤلاء إلى سماسرة للقاضي!
8 - القاضي الذي يحضر معه بعض أقربائه فيجعل منهم الباب النافذ إليه، والوسطاء الذين يضطر أمامهم أصحاب القضايا إلى اللجوء إليهم كي يصلوا من خلالهم إليه، فيعرضون قضاياهم ويتفاهمون على مطالبهم!
9 - القاضي الذي تجده، حين ينظر في منازعات مالية أو قسمة أراضٍ وعقارات بين وارثين أو شركاء، مزاحماً الصفوف سابقاً الجميع إلى خيار الخروج للمعاينة الميدانية، مقرراً تكاليف خروجه، ومستقطعاً أجرته وأتعابه عينياً أو نقدياً فيأخذ نصيبه كأنه وارث أو شريك!
10 - القاضي الذي إن قيل له "اتقِ الله" غضبَ من القائل، عاملاً على الانتقام منه وتأديبه لتطاوله بتذكيره بقدرة الله المطلقة على مخلوقاته!
11 - القاضي الذي يرفض تمكين أطراف القضية من حق تصوير محاضر الجلسات أولاً بأول تاركاً لنفسه فرصة لتعديلها وتغييرها وشطب وإضافة أشياء لم تذكر في الجلسات، عاملاً بعمد وقصد إلى التزوير بما يتفق مع قناعة ورغبة مسبقة!
12 - القاضي الذي يقبل ضيافة أحد أطراف المنازعات المنظورة أمامه، فيذهب بلا خجل للغداء والمقيل في منزل هذا الطرف أو ذاك!
13 - القاضي الذي يمكن محامي أو وكيل طرف من أطراف النزاع من الاطلاع على مسودة حكم لم يُعلنه بعد في جلسة رسمية، سامحاً له بالتعديل والشطب والإضافة كيفما أراد وبما يحقق "المصلحة"، بل وقد يمكنه من صياغة منطوق الحكم!
14 - القاضي الذي يتعامل مع أطراف النزاع بحسب مكانتهم الاجتماعية ومظهرهم ومقدار وجاهتهم وما يملكونه!
15 - القاضي الذي يحول جلسات المحاكمات ونظر القضايا إلى سرك للاستعراضات البهلوانية، يكون في معظمها صاحب دور البطولة، في حين يتوارى محامي أحد أطراف النزاع كمخرج غير معلن أو كاتب سيناريو مخفي، وكذلك "يكمن الشيطان في التفاصيل" غير المعلنة!
3
وماذا أيضاً؟!
هناك تجاوزات سلوكية معيبة، ومن هذه المخالفات المسلكية التي تستلزم الإحالة للتحقيق والمساءلة التأديبية للقضاة، بحسب تعميم لهيئة التفتيش القضائي رقم (8) لسنة 1441هـ/ 2020م، والذي جاء استناداً إلى قرار مجلس القضاء الأعلى رقم (96) لسنة 2008 المتضمن التأكيد على اعتبار بعض الحالات من المخالفات المسلكية التي تستلزم الإحالة للتحقيق والمساءلة التأديبية، وهي:
1 - أخذ أعضاء السلطة القضائية أجوراً تحت مسمى أجور النظر أو الانتقال.
2 - أخذ أعضاء السلطة القضائية أجوراً على قسمة التركات في القضايا المنظورة في محاكمهم.
3 - أخذ أعضاء السلطة القضائية أجوراً تحت مسمى تحصيل الأحكام.
ومع ذلك نجد -للأسف الشديد- أن معظم القضاة لا يتحلون بمبادئ السلوك القضائي الرفيع، ولا يلتزمون بالقانون، ضاربين بالقرار المشار إليه أعلاه عرض الحائط.
أعرف قضاة يفرضون أجوراً بمبالغ باهظة، وأعرف قضاة آخرين لا يكتفون بالأجور، بل يأخذون نسبة من إجمالي ما يتم تقسيمه كتركة أو منازعات تجارية تحت مسمى "معين، حتى أن بعض القضاة أصبحوا يمتلكون أراضي وعقارات حازوها كـ"معين"، جعلتهم من كبار الملاك!
4
إذن، ما الذي أريد قوله؟!
قطعاً هو التأكيد على أهمية القضاء ودوره ومدى تأثيره، سعياً منا إلى الإسهام بكل مسؤولية في إصلاح المنظومة القضائية وتطهيرها من لطخات سوداء تشوهه وتفسده. وما تلك التي ذكرناها سوى بعض النماذج، ولا يزال هناك الكثير والكبير من الفظائع/ الفضائح المخجلة التي يندى لها جبين القضاء ويئن من هولها ضمير العدالة. وإلى وقفات قريبة قادمة سنسلط من خلالها الضوء على مآسٍ تسببها بعض قضاة هذه النماذج، من واقع الأحكام القضائية التي أصدروها. كما سنقدم قراءة لنماذج من التعميمات القضائية الصادرة عن هيئة التفتيش القضائي، وخاصة تلك التي تضع حدوداً وضوابط لعمل القضاة وطريقتهم في نظر القضايا وسير المحاكمات.
5
ختاماً، وبعد المُداولة أقول:
أصدرت هيئة التفتيش القضائي، برئاسة القاضي الدكتور مروان المحاقري، تعميمها رقم (79) لسنة 1446/ 2025 لرؤساء وقضاة المحاكم الاستئنافية والابتدائية، أكدت فيه أهمية التزام القضاة بحسن التعامل مع الخصوم.
وجاء فيه: "لوحظ من خلال نتائج التفتيش الدوري والمفاجئ ونتائج دراسة الشكاوى الواردة إلى الهيئة - أن بعض القضاة يقومون بنهر الخصوم، أو طردهم من جلسات المحاكم العلنية، بل إن بعضهم يقوم بإلقاء أوراق الخصوم إلى الأرض أو إلى وجه الخصم، ولا شك أن هذه التصرفات تتنافى مع آداب القضاء ومبادئ التقاضي، كما أنها تصرفات تخل باستقلال القاضي وحياده، بل وتولد في نفس الخصم الشكوك والظنون".
وأهابت الهيئة في ختام تعميمها للقضاة بـ"حسن التعامل مع الخصوم وجميع الحاضرين في الجلسات، وعدم نهرهم، أو إلقاء أوراق الخصوم إلى الأرض أو إلى وجه الخصم أو توجيه العبارات القاسية إليهم، احتراماً لآداب القضاء ومبادئ التقاضي وبما يعكس وقار القاضي وعدالته، مع عدم الإخلال بضوابط إدارة الجلسات المقررة قانوناً"، محذرة بأن الهيئة ستباشر رقابتها القانونية للتحقق من الالتزام بما ورد في التعميم.










المصدر محمد صادق العديني
زيارة جميع مقالات: محمد صادق العديني