أعظم ما يقض مضجع الكبراء
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
يبين لنا التاريخ: أن حصول التبدل للمفاهيم، والتغيُّر للأفكار، والارتباك للخطوات، والضياع للأهداف لدى أي مجتمع أو جماعة كان منطلقها في الحق ولأجله؛ لم يكن إلا نتاجا طبيعيا لاتباع الطغيان في كل شيء، وتغليب الهوى والمطامع الشخصية، على رضا الله، والغفلة عن أنه مطلع على عمل العاملين، عالمٌ بنواياهم، رقيبٌ عليهم في سرهم وعلانيتهم، الأمر الذي يدفعهم لتجاوز الحدود المرسومة لهم من الله في كل شيء، وعلى كل المستويات.
ولكن هذا كله يحصل على يد ثلة أو مجموعة من المنتمين لذات المشروع الرسالي، لا على يد المجتمع كله، وإنما على يد هؤلاء القلة، الذين يكونون طبقة من طبقات المجتمع، وقد عُرِفوا قرآنياً باسم (الكبراء) أو (الملأ). وهم بالطبع لم يكونوا يصرحون بانقلابهم على الهدى، وتمردهم على الله في ما شرعه لهم من الدين، بل كانوا يمارسون سياسة الخلط بين الحق والباطل، ليتمكنوا من تقديم كل ما هو فساد وانحراف وبغي باسم الإسلام، إلى أن استطاعوا في نهاية المطاف أن يجعلوا من القبول بالظلم والتماهي والركون إلى الظالمين مسألة منسجمة مع الدين، وداخلة ضمن المسائل العبادية لله، الواجب تقبلها طاعةً له.
وللأسف الشديد فهؤلاء ليسوا حكراً على الماضي، فيسلم منهم الحاضر والمستقبل، بل سيظلون ظاهرةً بشرية إلى يوم القيامة، وما لم يعمل المؤمنون على فضحهم، وكشف مخططاتهم، وبيان ظلمهم وانحرافهم وفسادهم، فإن الخسارة في الدنيا ستعم الجميع، بحيث يتخلى الله عنا، ويحل الخزي بنا، ويتمكن العدو الكافر المستكبر من إلحاق الهزيمة الشاملة بنا في كل المجالات.
إن أول عامل من عوامل بناء المجتمع الرسالي يتجه هؤلاء الكبراء للقضاء عليه هو: المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس، لما لهذا العامل من قدرة على إنزالهم بمنزلة البشر، وبالتالي فهم يرفضون المساواة كونها تفقدهم مكانتهم المافوق بشرية، فهم إله أو أشباه إله، غير مخلصين لله بوحدانيته، إذ الإقرار بوحدانية الخالق عز وجل، يجعل صاحبه يتعامل مع الناس من منطلق وحدتهم في الخلق، التي توجب المساواة بينهم كحق من حقوقهم، وذاك ما أكد عليه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، بقوله: فإنهم صنفان، إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، ولا يقف الأمر عند هذا الحد في إجراء المساواة على الجميع، بل نراه يدعو الحاكم ألا يدع منصبه ينسيه أنه واحدٌ من الناس، لا شيء يميزه عنهم، أو يضعه فوقهم، إذ يقول: وإنما أنا وأنتم عبيدٌ مملوكون لربٍ لا رب غيره.
وعليه فليس للفوارق الطبيعية كالعامل الوراثي، أو الجغرافي، أو اختلاف اللغة، أو التفاوت في امتلاك الثروة، أو التنوع في المكانة والمنصب أدنى تأثير على جانب المساواة، لا من قريب ولا من بعيد، إلا لدى مَن نسوا خالقهم، وتنكروا لأصل تكوينهم، وواحدية خلقتهم.
ولم تكن قضية المساواة لدى الإمام علي عليه السلام مجرد شعار عاطفي، بل كانت منطلقا عمليا، وقانوناً للحياة كلها، فمادام الكل عبيدا لله الذي خلقهم، فلا بد أن يتساووا جميعاً في الحقوق، لذلك يخاطب عليه السلام أحد ولاته قائلاً: أما بعد: فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل، فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء.
ويقول في كتابه لمالك الأشتر: ولا يدعونك شرف امرئٍ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً ولا ضعة امرئٍ أن تحقر من بلائه ما كان عظيماً. فمادام الحق وحده هو الميزان، فلا بد من إقامته مع الغني والفقير، والبعيد والقريب، كما يقول كرم الله وجهه لمالك: وألزم الحق مَن لزمه من القريب والبعيد.
نعم لقد كان الإمام شديداً في الحق، جاداً في تطبيقه على الناس جميعاً، حتى في تعامله مع قادة الجند، إذ يخاطبهم بالقول: ألا وإن لكم عندي.. وأن تكونوا في الحق سواء. لذلك وجدنا الذين لا يستريحون لإقامة مجتمع المساواة في الحقوق والواجبات يفرون جماعات وأفراداً من دولته عليه السلام، ملتحقين بمجتمع الطبقية والأثرة، الذي يقيمه معاوية في الشام، وقد بين ذلك عليه سلام الله في كتابه لسهل بن حنيف، واليه على المدينة، ومما جاء به في صفات هؤلاء الموجودين في كل زمان ومكان قوله: وقد عرفوا الحق ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس لدينا في الحق سواءٌ، ففروا من الأسوة إلى الأثرة.

أترك تعليقاً

التعليقات