علامة الإخلاص لله
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
قد يمتن الله على أمّةٍ من الأمم أو مجتمع من المجتمعات بالهداية إلى أوضح السبل وأيسرها من كل النواحي، فلا غموض في النهج، ولا شبهات وانحرافات في الفكر والثقافة والخط المتبع، ولا خلل في القدوات والرموز التي تمثل النموذج الكامل في الجانب العبادي، وفي الجانب العملي وما يتعلق به من مسؤوليات والتزامات، ولا انعدام أو نقص للموروث الذي يحوي بين طياته الكثير من الأحداث والتجارب التاريخية، التي فيها من العظة والعبرة ما يجنب ذلك المجتمع مغبةَ الوقوع في المهالك والأخطاء التي وقع فيها مَن سبقه، وما هي إلا سنوات تفصل بين الانطلاقة وما صاحبها من تحديات وصعوبات استوجبت المزيد من العطاء والتضحيات للوصول إلى تمام النضج ومبلغ الكمال، وبين حالة الشعور بشيء من الراحة والاستقرار، فينشأ الجمود، وينتشر التواكل، وتسود اللامبالاة، ليصبح التعامل مع الواقع بغرض حل مشكلاته تعاملاً جزئياً قاصراً وغير قادر على منح نظرية شاملة للحل في أي مجال، لأنه لا يطل على الواقع من فوق، ولكنه يظل حبيس حفرة التسويفات والأماني، التي تجعله يتحرك لمعالجة كل شيء وفق مراحل تتعامل مع كل مسألة أو قضية بمعزل عن بقية المسائل أو القضايا الأخرى.
ثم يبدأ التنصل شيئاً فشيئاً من الثوابت ووفق مراحل وصولاً إلى اعتماد الأسلوب التربوي الذي لا يريك الفكرة من خلال الشخص بحيث ترى عمله وتقيمه وترتبط به وتقف معه من منطلق إخلاصه للرسالة واستقامته على طريق الحق، وإنما يبذل قصارى جهده ليربطك بالشخص بعيداً عما يفرضه النهج وتقتضيه الاستقامة في السير على الخط الذي يبينه الوحي ويحث على التزامه وتمثله كشريعة في العبادات والمعاملات، وهكذا تضيع الرسالة وتختفي قيمتها الحاكمة على كل شيء، لتصبح القيمة للشخصيات القيادية ذات الجاه والنفوذ، فهي القيمة والحجة والخط والنهج ولا شيء سواها.
الكلام كثير، والوجع نتيجة التفريط والظلم لا حد له! ولكننا سنكتفي بقصة وموقف سودة بنت عمارة الهمدانيّة، ففيها ما يعبر عن بعض وجعنا وفجيعتنا مما تجره علينا سلطة الوضع المزري.
نعم، سودة التي وقفت بكلّ جرأة وعنفوان أمام معاوية قائلة له: «إنَّ الله سائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقّنا، وما زال يقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك، ويبطش بقوّة سلطانك؛ هذا بسر بن أرطأة، قدم علينا فقتل رجالنا ونهب أموالنا، فإن عزلته عنّا شكرناك، وإلا كفَّرناك». فغضب معاوية وقال: «إيّاي تهدّدين يا سودة بقومك؟! من أنت حتى تفعلي ذلك؟!». فأطرقت سودة باكية، ثم أنشدت تقول:
صلّى الإله على جسم تضمّنه
قبرٌ فأصبح فيه الحقّ مدفونا
قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلاً
فصار بالحق والإيمان مقرونا!
فقال معاوية: «من هذا يا سودة؟». قالت: «هو والله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع). والله يا معاوية، لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا، فجار علينا، فصادفته قائماً يصلّي، فلمّا رآني، انفتل من صلاته، ثم أقبل عليّ برحمة ورفق ورأفة وتعطّف، وقال لي: ألك حاجة؟! قلت: نعم، وأخبرته الخبر، فبكى، ثم توجّه إلى ربّه قائلاً: اللّهمّ أنت الشّاهد عليّ وعليهم، وإنّي لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك. ثم قام عليّ (ع) وأخرج قطعة جلد، فكتب فيها: بسم الله الرّحمن الرّحيم، قد جاءتكم بيّنة من ربّكم، فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا النّاس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين. فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا، حتّى يقدم عليك من يقبضه منك، والسّلام. ثم دفع الرّقعة إليّ، فجئت بها إلى صاحبها، فانصرف عنّا معزولاً».
هذا هو عليّ (ع) في عدله، كان لا ينام وهناك إنسان يُظلَم ويُعاني ويُضطَهد، وهو الّذي كان يقول: «القويّ العزيز عندي ضعيف حتّى آخذ منه الحقّ، والضّعيف الذّليل عندي قويّ عزيز حتّى آخذ له الحقّ، وأيم الله لأنصفنَّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظّالم بخزامته، حتى أورده منهل الحقّ، وإن كان كارهاً».
إنَّ الإخلاص لله يتحقّق عندما نرفع صوت الحقّ والعدل في وجه كلّ الذين يستبيحون كرامات النّاس وأمنهم وحياتهم ومقدّراتهم، فلا يُظلم ولا نقبل أن يُظلم إنسان بيننا.

أترك تعليقاً

التعليقات