آثار الثقافة الممتلئة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
إذا تفرقت الأشياء تمايزت، ولا تتمايز إلا بخواصها، وخاصة كل شيء أحديته. فبالواحد تجتمع الأشياء وبه تتفرق.
وعليه فالهوية أياً كانت لا تكتسب معناها من نفسها، ولا تعي ذاتها من خلال ذاتها، ولا تنظر إلى نفسها في مرآة نفسها فقط. بكلمة واحدة هي ليست معطاة لنا على نحو العلم الحضوري، لأن ذلك من سمة الهويات الممتلئة أو الهويات المطلقة التي هي في حالة غنى مطلق عن الآخر، بينما سمة الهويات المتناهية تكمن في الافتقار إلى الآخر.
من هنا كان الآخر قدرنا، لأن الأنا تنبني أصلاً بالعلاقة مع العالم، والوعي بالذات يمر بالآخر، والشعور بالهوية يبرز في مواجهة الغير.
إذا كان الفصل الماهوي هو الذي يكسب الموجود تعينه النوعي الخاص، ويجعل له اسماً في الأسماء، وهو المدخل إلى زرع التفرقة والكثرة النوعية في الوجود، والمدخل إلى إدراك الموجودات، حيث لا إدراك بدون واقع التميز والاختلاف، أي أن التميز هو ما يجعل التعرف على الموجودات ممكناً، فإن هذا الاختلاف الأصلي لا يعد أكثر من نقطة انطلاق أنطولوجية أولى يجب ألا تحجب عنا الاختلاف ضمن المختلف النوعي نفسه، وهو اختلاف يقع في حدود التميز الشخصي والثقافي والتاريخي.
وهذا النوع من الاختلاف هو ما يميز النوع الإنساني تحديداً، ذلك أن الثقافة هي التي تكسب جماعة إنسانية هويتها الثقافية بما هي صيرورة وفاعلية تاريخية. ومعنى أنها تكسب الجماعة الإنسانية هويتها، أنها هي التي تسهر على وحدة الجماعة وتماسكها وائتلافها وعلى تميزها واختلافها. ولعل قدرة كل ثقافة تقاس بفاعليتها وقدرتها الائتلافية تلك، لأن الإشكال الرئيسي الذي يواجه أي حضور إنساني هو واقع اختلافه وتباينه الطبيعي، انطلاقاً من كون سمة الطبيعي الاختلاف والتفارق؛ ومهمة الثقافة أن ترتقي بالطبيعي إلى ما فوق الطبيعي، وأن تعقلن الطبيعي وتفتحه على مستويات وجودية أخلاقية وجمالية وفنية وميتافيزيقية، وبالتالي تسهر على ضبط وتقنين وتوجيه الطبيعي نحو غايات وأهداف كبرى ومثالية.
من هنا كانت الثقافة تعمل بالضد مع الطبيعي من حيث هو يميل إلى الاختلاف والانفلات من أي إجراءات ضبط وتقنين وتوجيه، والتحرر من أية غاية مفارقة.
ولذا كان التوتر هو الذي يحكم باستمرار علاقة الثقافي بالطبيعي في سياق جدلي لا يعرف الهدوء أو الثبات المقيم. إلا أن الثقافة بقدر ما تنتج الائتلاف، وتصنع هوية جماعة ما، فإنها تنتج الاختلاف وتولده في آن معاً. وهي بهذا المعنى معيار وطراز وجود، وصناعة حياة بكل ما في الكلمة من معنى.
ولذا لا معنى لثقافة ممتلئة، تكتفي بذاتها، وتعيش لذاتها، إلا إذا شاءت لنفسها العيش خارج التاريخ والحياة معاً، أو أن تتحول من مركزية المعنى والدور إلى هامشيته، ومن السيادة أو الندية إلى التبعية والتذيل، ومن الفعل والمشاركة، إلى رد الفعل والتلقي.

أترك تعليقاً

التعليقات