مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
نحن عزيزي القارئ في سباق مع الزمن، فالوقت يسبقنا بخطوة، بل بخطوات.
ولكن لا بأس مادمنا نسير مع كتاب "الرحمن اللُغز الأكبر" مستظلين بظل الله الرحمن، وسائحين في رحاب أنوار قدسه عز اسمه، أن نعض على النواجذ، ونتغلب على كل ما من شأنه جعلنا على حالة العمه التي أبقتنا خارج التاريخ، وسلبتنا كل شيء حتى لغتنا، لنفقد بعد ذلك الفكر والحس والشعور، الأمر الذي جعلنا ظهوراً تحمل جهلها وضلالها وعوامل زيغها عن الحق، وموجبات فسادها روحاً وفكراً، عقيدة وسلوكاً؛ أسفاراً حملها إيانا النحاة والمفسرون والفقهاء منذ قرون من الزمن.
لقد فرض عليك وعلي عزيزي القارئ أعلام اللغة والتفسير التخلي عن وعيك وإحساسك بالمفردة اللغوية، وألزمونا معاً بالخضوع لقواعدهم وأوزانهم، فمفردة الرحمن ليس لها إلا أن ترتدي ثوب فعلان، ولا يوجد لها معنى غير ذلك المعنى السقيم الذي ارتضاه سيبويه؛ نعم سيبويه. فإن قال قائل: إنه لم يعثر لسيبويه في كتابه على حديث عن معنى الرحمن، فإن الكتاب الذي بين أيدينا يجيبه: إنه هو الذي قعد لاسم الرحمن وغيره، فعنه أُخذت الجذور والأوزان، وأساليب الاشتقاق وسواها. ثم لماذا وجدناه يعمل عقله في ألف ونون مفردتي (دهقان وشيطان) فيقول: هما ليستا زائدتين، لأنهما ليس عليهما ثبت، فإنك تستطيع أن تقول: تدهقن، وتشيطن. بينما مفردة الرحمن لم يكلف نفسه النظر إليها لا من قريب ولا من بعيد؟!
ومثلما سلبونا الإحساس بالمفردة بنيةً ودلالةً سلبونا الإحساس بها تركيباً ونظماً، وذلك ما تشهد به أوزان الشعر الفراهيدية، أو البحور الخليلية، المعروفة بعلم العروض، التي كانت جناية أخرى على النص الشعري، إذ جعلت الشعر عبارة عن صنعة، المهم فيه هو القيام على التفعيلات الخليلية، ولا شيء آخر، فليس ثمة قيمة لمشاعرك وأحاسيسك وانفعالات واعتمالات روحك ووجدانك كشاعر، ما لم تكن منطلقة على الجسور الممتدة فوق بحور الخليل! بل عليك تحري النظم قبل كل شيء، لذلك لا غرابة أن تخرج لنا المدارس والجامعات جيلاً فاقداً للحس، جامد الفكر، مجرداً من الشعور، لا تراه يتفاعل مع ما يقرأ أو ينفعل بما يسمع، إلا بموجب ما توحي له به الأوزان من إيقاعات موسيقية، بل لعل أعظم جريمة عرفها تاريخ اللغة هي: أن تقرأ بيتاً لناظم، إلى جانب بيت لشاعر عظيم كالمتنبي، وهما يقدمان لك باعتبارهما بنفس الجودة والشاعرية، لا لشيء إلا لأنهما من ذات البحر الخليلي!
وتلك هي كارثة ما يعرف بالبلاغة وما تحتويه من أساليب وتراكيب وبنى وصيغ وغيرها، فلا تجد سوى البلادة تسري في عروق الطالب، أما البلاغة والنحو والقصيدة فقد ماتت جميعها حينما تحولت إلى قواعد وقوالب جامدة يحرم تجاوزها.

أبو اللغة وأمها
إذا كان الفراهيدي هو أستاذ سيبويه، فإن هذا الأخير هو المؤسس الفعلي لعلم اللغة لاسيما علم النحو. بل لقد رفع اللغويون والمفسرون والفقهاء سيبويه فوق العربية، فلولاه لما عرفها الناس، وكأنها قبله كما يصورون لنا لم تكن سوى كاعب حسناء مهملة، تحيط بها القاذورات وتغمرها النفايات، إلى أن نهض لها سيبويه، فأخرجها من تلك الكناسة، وأزال عن مفاتنها كل تلك القاذورات التي علقت بها، فيده هي اليد التي أبدتها بهذا الجمال والبهاء، ورفعتها لهكذا مكانة!
فلله أبوك يا مَن تفوح من بين ثنايا حديثك رائحة التفاح، كما تفوح من بين ثنايا ملابسك، وهي كما قيل: معنى اسمك، كم أنت عظيم!
ولأنك أنت؛ فقد كان القرآن مديناً لك، بل لقد سمي كتابك بالكتاب، فإذا قيل: قرأ فلان الكتاب، عرفنا أن كتابك هو المقصود، فلله درك؛ فلو سمى غيرك كتابه بهذا الاسم لطارت عنق صاحبه، ولتم إحراق كتابه، والحكم على من وجدت لديه نسخة بالكفر والشرك والارتداد، ولكن لأنك أنت، جاز لك كل ما لا يجوز لغيرك!

أترك تعليقاً

التعليقات