نحن والدجالون
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
ليس في أعمال الأحرار والشرفاء، ولا في مواقفهم، شيءٌ يندمون عليه؛ فهم إن فعلوا أو قالوا كان ذلك بناءً على اعتقاد بالحق استيقنته نفوسهم، وصدّقت به قلوبهم وعقولهم، فالتزموه سلوكاً وأخلاقاً، وتمثلوه مواقف تحكمها القيم والمبادئ، فلا انقلاب على الأعقاب بعد بيّنةٍ من الله جاءتهم، ولا خوف من المستقبل، أو تراجع وتخبط وانحسار على مستوى الحركة والفعل في ظل الزمن الحاضر؛ لأن القلوب متعلقةٌ بالله، محاطةٌ بألطافه، وتواقةٌ لنيل رضاه.
فكيف لمَن كان هذا حاله أن تسقطه الأحداث والأزمات، أو أن تعبث به الرياح الناتجة عن المتغيرات الحاصلة في أكثر من بلد أو إقليم من حوله، لاسيما وهو يسير في خطواته كلها على هدى الآيات البينات التي احتواها كتاب ربه سبحانه وتعالى، إلى جانب ما يزخر به الواقع من شواهد تؤكد له أنه سائرٌ في المسار الصحيح؟! ففي كل حدثٍ يمر به، أو قضيةٍ يقف عليها، أو ظاهرةٍ طبيعية أو إنسانية يعايشها، عبرةٌ ودرس يمنحانه المزيد من الوعي بأهمية الدور الذي يقوم به، ويكسبانه المزيد من المعرفة لنفسه ولطبيعة الحياة والناس من حوله، ويفتحان أمامه المزيد من الأبواب التي توصله إلى تحصيل ما يلزم من إمكانات وأشياء تعينه على بلوغ غايته التي يسعى إليها في رحلته الطويلة تلك، ومادام قد تمكن من تجاوز الصعاب في مراحل حركته الأولى، فلم يستسلم لظلم الظالمين، ولم ينحنِ أمام هيمنة واستكبار المستكبرين، ولم يعبأ بفارق القوة بينه وبينهم، بل ظل ثابتاً متماسكاً صابراً مبادراً سباقاً بالعمل الصالح، ومسارعاً إلى الله، من خلال الجهاد في سبيله، كما لم تسقطه مطامع النفس ورغباتها في محيط الشهوات والأهواء، في المراحل التي تحقق له في ظلها شيء من النصر والغلبة، وبات يجني خلالها بعضاً من ثمار التمكين، فإن كل شيءٍ يراه على مستوى الكون والأحداث والأشخاص والمخلوقات، بل وحتى على مستوى ما يجده هو في نفسه، لن يكون إلا عاملاً من العوامل التي تمنحه السداد والثبات، ووسيلة من الوسائل التي تكشف له أنه صار على الحق الذي لا يعتريه شيء من الباطل أبداً، فيجد البشرى بالفلاح تهمي عليه من كل حدبٍ وصوب.
ولكن هذا الدرب وبدونما شك سيشوش عليه أناسٌ رُزِقُوا القدرة على البيان في ما يودون الحديث عنه، مع عمق في الطرح، وسعة في التناول، وجمال في الأسلوب، الأمر الذي يجعلك تفكر: ماذا لو أن هؤلاء ظلوا على فطرتهم، وسخّروا قدرتهم تلك في خدمة القضايا العادلة والمحقة، وعملوا على تبصير المجتمع من حولهم بكل ما يعود عليه بالنفع، ويحقق له الخير الكثير في جميع شؤون حياته، ولم يقعوا أسرى لبلاطات القصور، التي تخلع عليهم بدورها كل ما من شأنه أن يحيل أقلامهم وألسنتهم إلى سيوف ملطخة بدماء ومدامع عامة الناس من البسطاء والمحرومين، أو يجعلهم تجاراً مهرة، فيبيعون الزيف والأوهام، ويصبح شغلهم الشاغل هو: كيف يصنعون لفلان مناقب، ويدّعون له من الفضائل والمزايا والصفات والمحامد الشيء الذي لم يسبق لابن امرأة أن حظي بعُشر معشارها، لا لشيء إلا لأنهم يودون الحصول على المزيد من المكاسب المادية، ويرومون الزيادة في علو الدرجة، ويبتغون المواضع التي تمكنهم أكثر من القرب من ذوي الجاه والسلطان، ولا ضير إن خسر المجتمع كل شيء، ماداموا هم قد كسبوا، ونالوا ما أرادوا؟!
وللأسف، فتاريخنا العربي والإسلامي، قديماً وحديثاً، مليءٌ بمثل هؤلاء، وبالكاد نجد حقبةً زمنيةً خاليةً من سمومهم الباطلة، وأكاذيبهم المضللة، وقصصهم المختلقة؛ إذ كان واقع كل مَن ولي أمراً من أمور الناس فقصرت به همته عن القيام به كما يجب يدفعه لتعويض هذا النقص باستقطاب مثل هؤلاء الناس، الذين يستطيعون بجرة قلم أن يحيلوا الخلّ عسلاً مصفى، ويفلسفوا كل مفسدةٍ حتى تصير علامة من علامات البر والصلاح، ففلان الخليفة يبعث برسالة إلى نهر النيل، حينما جف، وما إن قذفوا فيه رسالته حتى عاود الجريان من جديد، وكأن شيئاً لم يكن! بل يرى الجيش من منبره وهو في أقصى الأرض، ثم يناديهم فيسمعون نداءه، وينفذون توجيهاته! هذا فقط نموذج بسيط من اشتغالات الدجالين والمرتزقة الذين لا نزال نجدهم إلى اليوم، وهم يعملون بالأسلوب نفسه، ويكررون المنوال ذاته.

أترك تعليقاً

التعليقات