وحده الحسين
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
بالأمس شُيّع الحسين مجدداً؛ وهل في الأمة جديرٌ بالحسين سوى سيد شهداء الأمة؟! وهل ثمة سائرٌ على ظهر البسيطة رأينا به الحسين، ورأينا الحسين به، سوى نصر الله؟! نعم، وحده الحسين؛ على ذلك قاتل، وعلى ذلك مضى، وعلى ذلك يُبعَث، شهيداً، وكل حر على ذلك مِن الشاهدين.
لقد كان صادقاً مع الله والناس، راغباً بإصلاحهم، ساعياً لتحريرهم، فمَن كنصر الله عاش وفيّاً لأمّته، وقد «جرّعته أحوالها نُغَبَ التهمام أنفاساً»؟! ألم يفارق الأحبّة، صالحاً بعد صالح، إلى أن نطقت ملامحه: «خُيّر لي مصرع أنا لاقيه... وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف»؟!
لقد انطلق في جميع أحواله بسم الله وعلى ملّة رسول الله، كيف لا وقد خالط القرآن لحمه ودمه؟! ألم يكن يردد قوله تعالى: «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين مِن الرجال والنساء والولدان»؟!
وحين أصبحت غزّة تكثيفاً تاريخيّاً لمعنى الاستضعاف في وجه الاستكبار، أولئك «الذين أُخرِجوا مِن ديارهم بغير حقّ». وجدناه يحمل غزة في حدقات عينيه، ولن يشيح بوجهه عن جنوب جنوبه. نعم، فمثله ما كان ليتابع حياته وكأنّ شيئاً لا يحدث؛ بل لبس لامة الحرب وذهب بها إلى النهاية: «أبالقتل تُهدّدني؟!... هيهات منّا الذلة». وهل فهم جيلنا تلك المقولات الكربلائيّة إلا منه؟! وهل تلبّست تلك الكلمات معنى الراهن بالضدّ مِن طقوسيّة مُفرغة إلا بصدى صوته؟! أيكون «مُحرّم» دونه و»عاشر» بعده؟! اليوم نفهم أجلى. اليوم تأخذ تلك الشعارات معانيها، بتمامها، بتجسيد أقصوي، فنسمعها كما لم نسمعها مِن قبل، ومثلها، أحزن وأوجل: «لأبكينّ عليك بدل الدموع دماً». كان «هل مِن ناصر» وكان «لبّيك». مَن كان ليُطلق رصاصة واحدة على الصهاينة، بعد يوم مِن ذاك الصباح الهائل، فيما العالم يرتجف ترقّباً لما سيفعله الوحش وقد زمجر مِن الألم؟! هو، هو فعل، هو، أشجع أهل الأرض، هو، وكان «على طريق القدس». غزّة كانت امتحان الألفيّة لما بقي مِن إنسانيّة الأرض، وقد فاز، كان سيّد الفائزين.
لم تظفر «الفرنجة» المستكبرة منه يوماً بحلف، ولم تنل «التتار» منه موادعة. ظلّ يُقاتل عدو الأمّة إلى أن سكبَ دمه عند أكناف بيت المقدس؛ لكأنّ السماء أبت إلا أن يكون دمه بذاك الجلاء! مزّق بشهادته أباطيل التاريخ وزيوف الدواوين، بأن ليس ها هنا مِن ابن العلقمي، بل إنّه في رؤوسهم، مِن صنع الكيد وفحيح السلطات وتبريرات الهوان، إنّما أنا... «أنا حسن نصر الله».
لذلك، لا خوف على حزب الله إن أخذوا بميراثه، ولا شك أن الأجيال بعد ألف عام سيقرؤون على هذه الأرض لحظة السيّد وملحمته الخالدة، وسيشعر كل جيل بأنّ شرايينه قد انتفخت وضُخّت فيها دماء المجد، ولسان وجده: «أنا مِن ذاك». لأهله، لا خوف عليهم، وللسائل الحصيف أن يقرأ نصّاً مِن تراثهم تُلي على مدى القرون: «دعاء الندبة». كلمات تقطر قهراً بغير يأس. سيفهم أن ذلك «الصبر الجميل» ديدنهم، أنّ رمادهم لا يكفّ عن الانبعاث، مرّة تلو مرّة، وإن تخلّلها الكمون في التاريخ. لمثله فليبكِ الباكون، وليندب النادبون، ولتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضج الضاجّون، ويعجّ العاجون... أين «الحسن ابن الحسين»؟!
أسطورة؟ وما الأسطورة سوى تزخيم لروح قوم أبت الاندثار، سوى خلاصة تطلعات وآمال جماعة وفكرة ضدّ تقلّب الأزمان، حكاية ذاك الدم الذي يُعثر عليه تحت كل حجر يُرفع، وقد هبطت سحابة مِن حزن تحجب الشمس...؟! أي أنّ دماء صاحب الشهادة لم تتبخّر، بل اتسعت، تكاثرت، والآن يولد مِنها في الأرض أجيال تختزن تلك الذاكرة المُخضّبة. لكنّه كان حقيقة، شهدناها، حقيقة على غرار الأساطير، سنظل نشهدها ما عشنا، وكلّ حين ستتجلى أبعادها أوضح. تلك الشهادة، اليوم، هي «طقس العبور» إلى عالم جديد؛ انبثاق جديد.

أترك تعليقاً

التعليقات