اقتحام شيء من المحظور
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
كم نحن بحاجة ماسة لإعادة الاعتبار لإنساننا، فكرا وثقافة وتاريخاً، إنساننا الذي سلخت عنه قصور الخلافة قيمته الإنسانية، بسبب التفقير والاستغلال والضرائب! لقد حمل التاريخ لنا حكاية هذا الإنسان الذي ارتكبت بحقه المجازر المروعة، حيث الرؤوس المقطوعة، والأعضاء المبتورة، والمدن والحرمات المنتهكة والمخربة بلا شفقة ولا رحمة، والدماء المسفوكة، تحت وطأة  جدل دنيوي  مرعب تلبس وجه الإله، من طرف الخليفة، والحلم البريء الجميل من طرف مجانين الأمل في الثورة والتغيير. إننا أمام صرعات وصراعات جنونية، إما حماية للسلطة والثروة، وإما بحثاً عن العدالة والحرية والمساواة. سياسات ظالمة من طرف الخلفاء، وأحلام العدالة الوردية من قبل الثوار. الأمر يتعلق بنقيضين ليس فيهما ممرات آمنة خالية من البشاعة وسفك الدماء.
نعم، نحن بحاجة إلى الجرأة والشجاعة التي تمكننا من الدخول في عوالم التاريخ المهمش، لمجانين الأمل في امتلاك حق العيش الكريم، واكتساب القيمة الوجودية الإنسانية. نريد أن نقلب بفرح ومرارة صفحات من تاريخنا في رفض الظلم والقهر والتسلط والتجويع والعبودية المسيجة إلهيا، وحق الناس المقهورين عيشا ووجودا في امتلاك الحلم وجنون الأمل، وما يولد من فرح على أنقاض الجثث والخراب، والدماء البريئة لمضطهدين مثلنا، في نوع من التماهي بنمط عيش وأحكام وسياسات وقيم المستبد القاهر.
لذلك سنحاول اليوم اقتحام باب الحكاية المحظور، ليس بسادية مقصودة في التهويل والتخويف، ونشر الحقد والرفض لما يشكل مصادر أنفسنا، بل ليتعرف مجانين الأمل اليوم طريقهم، بعيدا عن معاودة إنتاج الخراب والدمار والبشاعة التي خلفها ومارسها التسلط والقهر السياسي والاجتماعي والثقافي والديني، وكرسها الثوار عبر تاريخنا القديم والحديث والمعاصر.
إنها حكاية القرامطة، الذين لا يقال عنهم إلا السوء من قبل البلاط، بفقهائه ومؤرخيه، فهم بنظر سلطات الجور: «كفرة وزنادقة وإباحيون...». هذه اتهامات وُجّهت إلى ثورة القرامطة التي بدأت سنة 278 هجرية. وكلمة «قرمط» تعني «فلّاحا» باللغة النِبْطية. وكان قائد الثورة حمدان بن الأشعث، وهو من دعاة الدعوة الشيعية الإسماعيلية، وكان على علم ودراية واسعة ويتمتّع بكاريزما قوية.
خلال ذلك الوقت، انتشر الظلم الاجتماعي في الخلافة العباسية، وبدأت الحركة الشيعية الإسماعيلية في نشر أفكارها بين العامة، ونجحت في بلاد جنوب العراق والبحرين، ثم توسعت واستولت على بلاد الشام، وقيل إن ابن الأشعث كان سيتجه إلى مصر للاستيلاء عليها.
وخلال ذلك الوقت انتشرت الأوبئة في أغلب الإمارات الإسلامية، لكن دولة القرامطة لم يمسها شيء من ذلك، وكان يوجد فيها نظام رخاء اقتصادي، ووصل نشاطها البحري إلى الهند والصين، ووصفها بعض المؤرخين والرحّالة بأنها جنة الله في أرضه.
عام 317 هجرية، ذهب القرامطة إلى مكة، واستولوا على الحجر الأسود، تحت قيادة أبي طاهر الجنابي، لاستخدامه في التفاوض حول مسائل سياسية. ويذكر التاريخ هذه الواقعة على أنها سرقة للحجر ومحاولة لبناء كعبة في جنوب العراق. لكن كل ذلك غير صحيح، فالأمر لم يخرج من نطاق التفاوض السياسي، وأُعيد إلى مكة عام 340 هجرية تقريبا.
واستمر حكم القرامطة مائتي عام تقريبا، وامتاز بوجود نوع من العدالة الاجتماعية، ونظّم العمال والحرفيون جماعات متخصصة أشبه بالنقابات العمالية. واهتم القرامطة بالفلسفة اليونانية، وتأثروا بالأفلاطونية المحدثة، وأسسوا أول تجربة لتطبيق الاشتراكية في التاريخ.
ولكن التجربة اندثرت تدريجيا مع استقطاب الدولة الفاطمية للقرامطة في سورية والعراق وغيرهما من الأمصار.

أترك تعليقاً

التعليقات