كي لا تفقد الثورة طهرها
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
علّمنا الحسين (ع) أن عظمة الأهداف التي يتبناها الشخص الثوري، تتطلب منه الاستعداد لبذل كل شيء في سبيل أهدافه التغييرية. فحجم التضحيات التي يجب أن يقدمها الإنسان لأجل تحقيق الأهداف العليا ليس لها سقف، ولا تقف عند حد، فالمسألة ليست مجرد شعارات، بل فكر وإدراك ووعي واستعداد للتضحية، التي قد تصل لبذل النفس في هذا السبيل. وهذا يشمل المناضلين بأنفسهم وبأقلامهم من النخب والمثقفين، والمناضلين في كل حركة إصلاحية حقيقية تريد أن تواجه الانحراف، سواء في الساحات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية؛ كونها كلها ساحات تتطلب وعياً وإدراكاً وفهماً ومعارف وتضحيات. فقد يبذل الإنسان حياته لأجل أن ينهض بوعي الأمة، وقد يبذل من سمعته ووجوده ليعيد رشد الأمة، ويكشف من يريدون تزييف وعيها.
لم يكتفِ الإمام الحسين بتعليمنا درساً واحداً، بل لقد قدم بين أيدينا كل ما يتطلبه بناء الذات الثورية من أسس وقيم ومبادئ، ولم يترك للمزيفين ثغرة لينفذوا من خلالها إلى عقول الثوريين وقلوبهم، حتى تحت اسم علماء دين؛ إذ يبيّن لنا أن وظيفة القيادات الدينية لن تكون ذات دين ما لم تجعل بنيتها الوظيفية قائمة على البنيان الحسيني، أي أن شكل حركتها ومستوى وطبيعة الدور الذي يجب أن تكون عليه هذه القيادات وفقاً لنموذج الحسين عليه السلام في كربلاء، كقيادة ربانية قدمت نموذجاً في هذا الصدد.
فالإصلاح الذي نَشَدَهُ الإمام الحسين عليه السلام قدم لأجله نفسه وأهله وكل ما يملك؛ لأنه أراد أن يحق الحق ويقيم العدالة ويعيد الحقوق إلى أهلها، وهي من أسمى الغايات التي أرسل الله لأجلها الرسل، وناضل لأجلها الأنبياء. فموقعه من الناس موقع المعطي، الباذل، المتجاوز ذاته ومصالحه نحو الآخرين. فلم يخرج الإمام الحسين (ع) عن الفضيلة، ولم يمارس العنف والإرهاب وبيع القيم والمبادئ واستخدام طرق غير صالحة بذريعة تحقيق العدل وصلاح الغايات.
نعم لم يفعل (ع) كما يفعل بعض التغييريين في التبرير لسقطاتهم القيمية والخلقية، جاعلين غايتهم تبرر وسيلتهم؛ إذ إن غايات الحسين لم تكن أبداً لتبرر فساد الوسائل؛ بل على العكس، كان صلاح الغايات يفرض وجوده ومنهجه في صلاح الأدوات. لذلك نظافة الثورة الحسينية بأهدافها وأدواتها هي ما خلدتها، رغم تراجيدية المشهد ودمويته؛ إلا أن هذه الدموية لا تعني الهزيمة بالضرورة، بل تكشف أن قابلية المجتمع للحقيقة والحق لم تكن قد تحضرت وتهيأت كما يجب، وأن مستوى الانحطاط الذي وصلت إليه الأمة، نتيجة تغييب وعيها ورشدها ونباهتها، دفعها لعدم قبول هذا النموذج النظيف للثورات، بل هكذا نموذج لا يصمد أمام العنف، ولي عنق الحقيقة وتزييفها، واستخدام طرق ملتوية وخداع وكذب وتهديد بالموت وقتل للأبرياء وهدم للقيم في سبيل تحقيق النصر المادي؛ لكن مع تقديم نموذج سيئ للمجتمع يخضع إراداتهم للطاغوت، ويقدمهم قرابين له ولملذاته وشهواته في السلطة.
إن نموذج الحسين هو نموذج إصلاح وتحرير حقيقي، نموذج يجسد المثل الأعلى في الكمال وطلب الحق والحقيقة.
وما دام والإنسان قد اختار درب الحسين، فيجب أن يكون النضال مستمراً، باستمرار الصراع بين معسكر العدل ومعسكر الظلم. لذلك فهذه المناسبة العظيمة تجدد لنا وعينا وإدراكنا، وتعيد لنا رسم أولوياتنا، وتبصرنا بالخيارات الأقرب للعدالة، وتصحح لنا مساراتنا، والأكثر تحقيقاً لهدف عظيم كالإصلاح، وترشدنا إلى القيادات التي مثلت نموذج الإمام الحسين عليه السلام في القيادة، وسعت إلى أن تربط الناس به عليه السلام، قولاً وسلوكاً ومنهجاً.
لقد مثّل الحسين عليه السلام نموذجاً للحركة في المجتمع، ممثلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بُعده الواسع والحقيقي، وليس البُعد الذي تم حصره فيه وتضييقه ليصبح وسيلة للتضييق على حرية الفرد وسلبه حقه في الاختيار وإرادته في تقرير مصيره، بل مفهوم واسع لتحقيق العدالة والكرامة الإنسانية، فهي حركة بناء للإنسان الصالح والحياة النظيفة؛ إذ  نظر الإمام الحسين عليه السلام إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمسألة أوسع من دائرة العلاقات الفردية، بحيث تمتد إلى الحكم والعلاقات القائمة بين المواطنين، وفي إطار الإطاحة بالحكومة الظالمة، ولذلك كانت ثورته تنشد الدولة، التي هي للمسلم ولغيره؛ لأنها تقوِّم مساره في فهم الحياة وأبعادها، على أسس عديدة، منها مشترك إنساني، ومنها مشترك عقدي، ومنها خاص. فالمشترك الإنساني هو القيم الفطرية والمعايير التي تستمد وجودها من الضمير والوجدان الإنساني، والمشترك العقدي هو الوحدانية ورفض العبودية لغير الله، والخاص بالمسلم.
فالطابع الثابت في شخصية الحسين عليه السلام هو علاقته مع الله، وعلاقته مع الناس، وعلاقته مع المجتمع. الطابع الثابت في هذه العلاقة هو الإخلاص لله، والتفاني في طلب رضاه، والإعراض عن أي مكسب خاص دنيوي.
لذلك كان انبعاثه للتغيير والإصلاح والثورة انبعاثاً ربانياً يهدف إلى خدمة عباد الله دون تمييز، وإصلاح واقعهم الاجتماعي، بل قبله واقعهم الإنساني.
وبذلك أسس الإمام الحسين عليه السلام صلة الإنسان بالإسلام الجهادي الثوري، في سبيل رفع الظلم، وتحقيق العدل بين الناس جميعاً دون تمييز، لا بالإسلام من خلال مؤسساته الرسمية الحاكمة، والتي تمثلت بارتباطها بمعاوية وبيزيد من بعده.

أترك تعليقاً

التعليقات