محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
بعض اللافتات التي رفعها منذ الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت متظاهرو السودان المناهضون لانقلاب العسكر الذي قاده عبدالفتاح البرهان ضد مسار التحول الديمقراطي، كانت تقول: «لن تحكمنا دويلة الإمارات» و«لا لتدخل مشيخيات الخليج في شؤوننا»... إلخ.
والمضمون نفسه تقريبا حملته العديد من اللافتات التي رفعها أنصار الديمقراطية المناهضون للتوجهات الفردية للرئيس التونسي قيس سعيد في العاصمة تونس ومدن البلاد الرئيسية الأخرى خلال الأسابيع الفائتة.
هذا الموقف الجماهيري في كلا البلدين يعكس في الحقيقة وجود وعي شعبي مبكر ومتقدم بمخاطر هذا التدخل الخليجي (المبطن في الواقع) في شؤون بلادهم الداخلية، بما يمكن أن يخلفه من حروب ومآسٍ وحمامات دم منسكبة على غرار ما هو حاصل منذ سنوات في ليبيا وسورية واليمن ولبنان بدرجة أخف وطأة ـ إن جاز التعبير، ما يعني أن توجهات المرتزقة في مراكز السلطة في هذين البلدين الشقيقين (تونس والسودان) باتت تواجه على الأقل بوعي ومقاومة شعبية قد يستحيل معها وجود لافتات في قادم الأيام تقول «شكرا يا سلمان» أو «شكرا أبناء زايد»، على غرار تلك التي رفعت وترفع حتى اللحظة بسذاجة منقطعة النظير ومنذ بداية العدوان في مدن رئيسية في بلادنا مثل تعز وعدن، في تأكيد ربما على أن طوفان العمالة والارتزق تعدى بكثير حدود ساسة الرذيلة ليشمل قطاعاً مهماً من القوى الاجتماعية والشعبية المغرر بها والغافلة عن إدراك مصيرها ومصالح بلدها.
وعموما، يمكن القول بأنه حتى الشعوب الأفريقية البائسة والجائعة والمنهكة لم تسلم من الأذى الإماراتي بشكل خاص، مثل شعب «تيغراي» في أقاصي جنوب إثيوبيا، الذي يخوض حربا وجودية ضد ديكتاتورية آبي أحمد المركزية، وذلك بالنظر إلى حجم شحنات الأسلحة المختومة بدمغة أبناء زايد والمرسلة تباعا خلال الأسابيع الفائتة لتدعيم جبهات حكومة آبي أحمد المنهارة في مواجهة مقاتلي جبهة تحرير شعب «تيغراي» والمرسلة تباعا وعبر مئات الرحلات الجوية المنظمة والممولة بدولارات النفط الإماراتي بواسطة طائرات النقل العسكرية العملاقة (اليوشن) المنطلقة من مناطق ودول عدة، أبرزها أستراليا وأوكرانيا، بالصورة التي بثتها ونقلتها تفصيلا يوم الخميس الفائت 25 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري قناة «الجزيرة» الإخبارية القطرية عبر برنامجها الموسمي والفضائحي «المسافة صفر».
وتتنوع بطبيعة الحال أسباب ودوافع هذا النزوع الخليجي والإماراتي المحموم بشكل خاص لنشر وتعميق أسباب الفوضى والاحتراب الأهلي الداخلي في محيطهما العربي والإسلامي على وجه الخصوص، وإن كانت تخدم في مجملها المصالح الأمنية والاستراتيجية طويلة الأمد لأسيادهم في كل من «أورشليم» وإمبراطورية اليانكي على السواء.
فبالنسبة للسودان وبانتفاء وجود الذرائع الأيديولوجية ذاتها المسوقة فيما يخص حربهم العدوانية ضد بلادنا، أي ذريعة مقاومة النفوذ الإيراني كما يشاع، فقد كان من الصعوبة بمكان على كل من الرياض وأبوظبي أن تتقبلا بسهولة خسارة عميل مرتزق مهم كنظام الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير الذي جند نفسه وجيشه وبلده لخدمة الأجندات التآمرية والعدوانية لمهرجي الرياض وأبوظبي، مقابل الفتات طبعا، إلى حد أنه لم يتوانَ عن إرسال عشرات الآلاف من جنوده ومرتزقته خلال الأعوام الأخيرة من حكمه لخوض حروب الرياض وأبوظبي بالنيابة في بلادنا من جهة، ولتدعيم الأمن الحدودي لمملكة الرذيلة من ناحية أخرى.
فكان لا بد في هذه الحالة وفي سياق سعيهما، أي الرياض وأبوظبي، للالتفاف على ثورة الشعب السوداني، العمل أولاً على استمالة العسكر في قوام المجلس السيادي بقيادة البرهان وترويضهم على أبجديات العمالة المجردة، وذلك عبر جرهم في البداية إلى مربع التطبيع المجاني مع «إسرائيل» كتقدمة مهدت السبيل بعد ذاك لاستيلائهم الأحادي على السلطة بواسطة الانقلاب الذي قاده البرهان لوأد ثورة السودانيين وإجهاض تطلعاتهم المدنية والديمقراطية المستقبلية بالصورة التي حدثت يوم الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، التاريخ الذي يشكل إنجازا إضافيا في مسلسل التآمر الخليجي الإماراتي المفتوح على أمن واستقرار ومستقبل الأمة العربية والإسلامية من أقصاها إلى أقصاها.
هذا الواقع ينطبق أيضاً وبطريقة ما على وضع الشقيقة تونس، الذي يعد خوف وتوجس الخليجيين من التجربة الديمقراطية دافعا مهما لوأدها في مهدها، لأن من شأن الفوضى وعدم الاستقرار والانقسام الوطني الداخلي الذي بدأ في الاستشراء وبفضل الدولارات الإماراتية في كل مفاصل الوطن والمجتمع التونسي، التمهيد لعودة الحكم الفردي الذي سيكون قابلا للترويض بدرجة تجعله مؤهلاً للحاق بركب التطبيع الخليجي ـ العربي ـ المغاربي المحموم مع الشقيقة الوافدة «أورشليم».
وتبقي المفارقة هنا كامنة في عجز هذه الدويلات، السعودية والإمارات تحديدا، عن استخلاص الدروس والعبر من الفشل المتلاحق لأغلب مشاريعهما التآمرية والإخضاعية على مستوى المنطقة العربية ككل.
فمن الشقيقة سورية التي تكلل فشلهما وبعد صبهما لمئات مليارات الدولارات خلال عقد مضى بهرولة أبوظبي مؤخرا صوب دمشق طلبا لودها، إلى بلادنا التي بدأت بوادر الهزيمة الكاملة لمشروعهم الاستعماري والتفكيكي تلوح في الأفق، بحيث بات البحث عن مخرج ولو شبه مشرف من مستنقعهم في اليمن يعد مطلبا ذا أولوية قومية بالنسبة لهما، إلى لبنان الذي بدا عصيا بدرجة لم تكن متوقعة في مواجهة الزوبعة الخليجية الأخيرة والرامية بدرجة رئيسية إلى إخضاعه عبر إضعاف مقاومته الباسلة ممثلة بحزب الله تمهيدا لإلحاقه بركب الذل والتطبيع الجماعي العربي مع «إسرائيل».
فمتى سيتعلم معتمرو الدشداشات هؤلاء أن مصير الشعوب ومستقبلها ليس رهنا بدولاراتهم الملوثة؟!

أترك تعليقاً

التعليقات