أين موقعنا من «الأيلولين»؟!
 

محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
"من الشرارة يندلع اللهب"، ظل هذا الشعار الثوري يتصدر صحيفة "الايسكرا" (وتعني أيضا الشرارة)، التي أصدرها الرفيق فلاديمير لينين، منذ صدور عددها الأول في كانون الأول/ ديسمبر 1900 في ألمانيا كناطقة باسم قوى الشغيلة الثورية في روسيا القيصرية. ولقد كانت بالفعل الشرارة التي أسهمت وبشكل فعال ليس فحسب في تأسيس اللبنات الأولى لحزب العمال الاتحادي الديمقراطي الروسي (الشيوعي لاحقاً)، وإنما في التمهيد بعد سبعة عشرة عاما للقضاء كليا على النظام القيصري وتحقيق الانتصار الحاسم لثورة العمال البلشفية.
أما نحن فلدينا أيلولين: أيلول الأم 1962، وأيلول الخالة 2014؛ واللتان لا يربطهما أيُّ من القواسم الثورية المشتركة، باستثناء أن كلتيهما، أي الثورتين، خضعت للتدخل والمزايدات الإقليمية والدولية المحتدمة منذ تشكل جذورهما التكوينية الأولى.
فبالنسبة للأولى، أي سبتمبر الأم، فإن الأمر المؤكد هو أنها قد فقدت عذريتها في وقت مبكر من قيامها، الأمر الذي جردها من خاصيتها الثورية ليحولها إلى أشبه ما تكون بعملية انقلابية بحتة، وذلك إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن أبرز خصائص النجاح لأية عملية ثورية يكمن في تلك الحالات التي يتم فيها الإطاحة بسيادة طبقة استبدادية وإرساء سيادة طبقة أخرى مستبدة، عندها فقط نكون حقا أمام عملية ثورية مكتملة.
هذا الأمر يتناقض بشدة مع الحال الذي وصلت إليه سبتمبر الأم، والمتمخضة أساسا عن نقل السلطة من براثن نظام ملكي ذي طبيعة أبوية موغلة في التخلف إلى سلطة استبدادية أكثر سوءاً وغوغائية (بنمطها البونابرتي) ممثلة في تحالف اليمين الديني والعشائري، ما يعني خلوها في الإجمال كعملية ثورية من أية مضامين أو مهام نظرية واضحة ومحددة.
فعدا عن الهدف المتمثل في الإطاحة بالنظام الملكي وإعلان الجمهورية، فإنها لم تنجز أية مهام أخرى لتثبيت دعائم العملية الثورية، مثل المباشرة في إصدار دستور وطني يمنح الحقوق السياسية والمدنية الأساسية للشعب، والمباشرة أيضاً في إعداد البرامج الإنمائية على مختلف المستويات استجابة لمقتضيات الخلاص الملحة آنذاك من براثن الفقر والفوضى والأمية الثقافية والمعرفية والعلمية المستشرية والمكبلة بالجهل الموروث والمتحيز على امتداد المشهدين الاجتماعي والوطني.
وهذا ناجم بطبيعة الحال عن افتقار قادتها ومنظريها في المقام الأول للقدرة على دمج الرؤية النظرية العميقة بالرؤية السياسية الحادة، واللتين تشكلان أساس التنمية المعرفية الكفيلة بانتشال البلاد من بؤسها وعثراتها التاريخية، وتمكينها من السير بثبات صوب المستقبل المأمول.
ومثلما أخفق قادة سبتمبر الأم في المسائل النظرية والتكتيكية والتنموية والبنائية... إلخ، فإنهم لم يفلحوا أيضاً في المسائل المتعلقة بحدود تقرير المصير الوطني، من خلال إبقائهم لأبواب الثورة مشرعة ومفتوحة لقوى الثورة المضادة ولكارتلات القوى الانتهازية من تحالف اليمين الديني والعشائري، الذين أخذوا يتغلغلون شيئا فشيئا في مفاصل العملية الثورية، ما أدى في نهاية المطاف إلى تزايد نفوذ زعماء القبائل والقوى الدينية، وتهميش الثورة ذاتها، التي تم وأدها في المهد في مرحلة مبكرة وتجييرها لخدمة أجندات العديد من القوى الإقليمية والدولية، بالصورة التي يمكن قياسها بوضوح من خلال الإمعان بموضوعية فاحصة في مسار التبعية المهينة التي شابت أغلب سني ومراحل الثورة الأم، باستثناء حقبة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي والتي لا تتعدى في مطلق الأحوال حدود الثلاثة أعوام وثلاثة أشهر فقط.
وذلك على عكس الظروف المحيطة بنشوب وانتصار ثورة أيلول/ سبتمبر 2014، والتي نشبت في الواقع كنتاج لاستجابة ثورية جماهيرية نامية وقوية، كان مستوى الوعي والتدخل الفعال للقوى الجماهيرية والشعبية في أحداثها وتراجيدياتها العنصر الأكثر حسما في مسارها كعملية ثورية وطنية، ولدتها ظروف ومناخات الفوضى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية بالغة القسوة، والناجمة آنذاك عن فساد النخب الحزبية التقليدية، الحاكمة منها والمعارضة على السواء، والتي أسهمت في مجملها بتوفير الشروط (الأيكولوجية) الملائمة لاندلاع شرارة ثورة الواحد والعشرين من أيلول/ سبتمبر وانتصارها، خصوصا وأن ما يسهم في إحياء ديناميكيتها الثورية وتعظيم شأنها كفعل ثوري لا يكمن فحسب في كونها نشبت كحركة ثورية جماهيرية وشعبية بصورة منفصلة كليا عن النخب السياسية والحزبية التقليدية ما يمنحها صفة التوأمة الفعلية مع "كومونة باريس" الثورة الجماهيرية العفوية التي نشبت في فرنسا العام 1871، وإنما لاستنادها في الأساس ومنذ لحظات انطلاقها الأولى إلى طبقة تقدمية امتلكت زمام القدرة على أن تجمع حولها أغلبية قوى وقطاعات الشعب الساحقة والمسحوقة.
ويبقى السؤال الملح هنا ماثلا حول ما إذا كان في مقدور ثورة أيلول 2014 الصمود أكثر في وجه الأعاصير الداخلية والخارجية المحتدمة، خصوصاً وأن ما لا يمكن إغفاله هنا يكمن في أن نضارتها تلك لا تنفي بالطبع وجود الكثير من الأخطاء والشوائب العالقة في مفاصلها، والتي كان وسيكون لها أيضا عميق الأثر في مسار ومستقبل العملية الثورية برمتها، إذا لم يبدأ أسياد الثورة في إصلاح مسارها عبر تنقية تلك الشوائب العالقة بها.
فالثورة التي تحولت خلال الأعوام الثمانية الفائتة من وجودها بنظر أبنائها ومريديها إلى زاد نظري وأيديولوجي لا ينضب للصمود في وجه الغطرسة العدوانية داخليا وخارجيا، بدأت الآن في الانحدار شيئا فشيئا تحت وطأة النزعات الإلغائية والشللية المتطرفة من قبل بعض متفيدي المكاسب الثورية المحققة من قبل بعض النخب الحركية والفئوية والمنبريّة في الداخل وفي النطاق السيادي عموما على حساب المصلحة الوطنية والاجتماعية العامة.
ما يعني أن المخاطر الحقيقية المحيقة بها اليوم، أي بالثورة، لا تتمثل فحسب بضراوة العدوان الخارجي والداخلي الذي يستهدفها منذ انطلاق شرارتها الأولى، وإنما بفساد وغطرسة القوى الرجعية المتغلغلة عميقا في مفاصلها، أو ما يمكن تسميتها مجازا بـ"الارستقراطيّة الثورية" التي تنهج نهجا استحواذيا على الوظائف الأهمّ في إدارة الدولة والثورة معا.
فالثورة التي تنهج نهجا شلليا وتخضع لمزاجية المضاربين بالمصالح الوطنية والشعبية، والثورة التي تقصي بعض قواها الاجتماعية والوطنية من النهوض بنضالاتها السياسية والاقتصادية والطبقية، والثورة التي لا تكفل حقوق كافة مواطنيها، السياسية والمدنية والإنسانية الأساسية، بصورة عادلة ومتكافئة، لا يمكن لها الصمود والاستمرار ولو امتلكت جبروت ومقدرات العالم أجمع.

أترك تعليقاً

التعليقات