لن أعيش في جمهورية الخطيئة!
- محمد القيرعي الأثنين , 6 أبـريـل , 2020 الساعة 7:14:25 PM
- 0 تعليقات
محمد القيرعي / لا ميديا -
صديقي الأعز (أ. م)..
حينما كنت طفلا كنت أتساءل في حيرة ما إذا كانت الحياة تمتاز في مجملها بكل ذلك الجبن والهوان والقسوة والعدمية الماثلة في حياتي وحياة أقراني من أخدام ومهمشي قريتنا الذين ولدوا وعلى أعناقهم تتدلى قيود الموروث الدوني العنصري بصورة لا فكاك منها.
كنت أتساءل: ما الذي يجعل الكراهية تسمو على ما عداها؟
وبالتأكيد، كنت محقا في ذلك، فلا مكان آمناً لمن هو مثلي في وسط هذا العالم الموبوء بالنفاق والكراهية.
كنت الوحيد من أبناء جيلي الذي يعاني من تبعات تفوقه الدراسي في مرحلة التعليم الابتدائي منتصف سبعينيات القرن العشرين، حيث كنت ذكيا ومتفوقا بالفطرة، بيد أن تفوقي الملحوظ آنذاك كان يعد بمثابة إهانة مرفوضة لأقراني القبائل، وتمردا أو تقويضا ـ إن جاز التعبير ـ لبنيان تفوق العرق الأبيض، الأمر الذي كان يتعين علي معه تحاشي تفوقي في كل مرة أحوز فيها على درجات أعلى من غيري، خوفا من ردة الفعل الاجتماعي ومن غضب "الفاشلين البيض" الذين كانوا دوما على حق حتى في نظر والدي الذي كان مجرد تفوقي يشكل في نظره أداة جلب لمتاعب هو في غنى عنها.. أصلا... الخ.
هل بإمكان أي منكم أن يتخيل طفلاً بائساً ومهمشاً مثلي كان جل ما يخشاه هو التفوق الدراسي تحاشيا لردة فعل القبائل؟ أثق تماما في أن أي مثقف مثالي يحوز على نفس القدر من مشاعر النبل والتقدمية التي تمتاز بها سيدي وصديقي، سيكون قادراً بالتأكيد على تخيل ذلك البغض والبربرية التي حفزتني آنذاك على الهرب مبكراً من والدي ومن أسرتي ومن المجتمع قبل أن أجتاز حتى مرحلة التعليم الابتدائي، مدفوعا برغبة عارمة وبعزم لا يلين في أن كفاحا من نوع آخر -أشد بأسا وضراوة ـ يمكن أن يحررني من لعنة القهر والتسلط الاجتماعي والدونية تلك، ويمكنني من اكتساب مكانتي العادلة في المجتمع، لتكون البداية الحقيقية لكفاحي الثوري المحموم منطلقة في 1978م، من عمق إيماني بعظمة الشعار الذي أطلقه الرفيق "فلاديمير أليتيش لينين" في أن "الأرض والخبز والسلام والحرية ضرورية من أجل الشعب".. حينما كنت لا أزال يافعا في منظمة أشيد "اتحاد شباب اليمن الديمقراطي" ومن بعدها في الحزب الاشتراكي، لأكتشف بعد 4 عقود كاملة كم كانت الحياة غير عادلة البتة معي حينما تيقنت من شدة زيف دعاة القيم والشعارات التقدمية في بلادنا، التي قاتلنا وضحينا طويلا في سبيلها بسخاء الفاتحين الحقيقيين.
حيث كانت ثورتنا الاشتراكية في جنوب اليمن ما قبل الوحدة مجرد يافطة تخفي وراءها مجموعة من برابرة القبيلة المتمترسين بقوة خلف "المطرقة والمنجل"، والذين اعتادوا في الحقيقة على حشو خطبهم بالعبارات التقدمية المنمقة واحتساء الكحول والجعة بإفراط، ما جعلهم غير مدركين البتة حقيقة أن قضية الحرية الإنسانية لا تعني فحسب خلع الحجاب وتقويض التراتبية الطبقية وتهميش الألوهية الدينية، بقدر ما هي قضية إنسانية مطلقة، تعني تحقيق الأمان لبيوتنا ولآمالنا وتطلعاتنا التحررية ولأطفالنا وحاضرنا ومستقبلنا... الخ.
وهي مسائل لا يعد الكفاح في سبيلها واجبا مقدسا فحسب، بقدر ما هو حق ملزم تفرضه علينا ضرورات الصيرورة التاريخية. وكانت الحصيلة النهائية للعملية الثورية برمتها تشكل انعكاسا هائلا لأكبر مظاهر الإخفاق الثوري لنظرية سياسية -أيديولوجية- "الماركسية" التي لا أزال من أشد المؤمنين والمبشرين الثوريين بمبادئها وأسسها، وبنشيدها الأممي القائل "لن يأتينا أحد بالخلاص... لا الرب ولا الملك ولا الأبطال، بل سنتوصل إلى تحرير أنفسنا بأيدينا بالذات".
إذن؟
وعلى ضوء هذه الإخفاقات الثورية المتلاحقة، لا أدري ما الذي جعلني أوقن في مرحلة ما بأن حركة أنصار الله قد تسد هذا الفراغ الثوري الهائل، كونها حركة شعبوية ثورية أنتجتها بشكل أساسي الحاجة الملحة للقضاء على تراتبية وتراكمية الاستبداد التسلطي المحموم، موقنين أننا وعبرها ومن خلالها كحركة ثورية وليدة من عمق الآلام والمعاناة الشعبية، سنكون قادرين على تخطي المأزق التاريخي للإنسانية عبر:
1 - التحرر من الفوقية الطبقية والتسلط السلالي الموبوء بكل عفونة التاريخ.
2 - التحرر من الهموم التحررية ذاتها المتنامية في محيط لامتناهٍ من العسف والاستبداد التاريخي.
3 - التحرر من الفتاوى والآراء الدينية المسبقة.
4 - التحرر من النواهي الأبوية.
5 - التحرر من الآراء المسبقة "للمجتمع" الاستبدادي الأبوي؛ الأعراف والتقاليد الاجتماعية الموروثة.
6 - التحـــــرر مـــــن البيئــة الخسيســـة (الفلاحية، البورجوازية الصغيرة، المثقفــة البورجوازية، وتحالف اليمين الديني والعشائري).
7 - التحرر من عراقيل القانون والمحاكم المرهونة على الدوام بالتطبيق المزاجي للقوانين.
فهل نجحنا يا ترى في تحقيق تطلعاتنا؟ وهل كان في الإمكان تحقيقها إذا ما استمررنا في نضالنا المحموم داخل الحركة؟
بالتأكيد لا، وأنا على يقين من أنكم توافقونني هذه الإجابة، لأن النتيجة سرعان ما بينت أن إخفاقا في هذا المنحى كان أشد وطأة من سابقيه بفعل وضاعة وانتهازية بعض من امتلكوا ناصية القرار السياسي والأمني والإخضاعي للحركة على شاكلة (...,...,...) وغيرهم ممن اعتقدوا وبشكل راسخ أن ثورة الـ21 من سبتمبر 2014م هي ملك حصري لتعزيز امتيازاتهم الشخصية والأسرية والشللية ونزعاتهم التسلطية التي دفعتهم وبشكل مبكر إلى تحويل العملية الثورية إلى بيئة طاردة ومهلكة لأبنائها ولرجالها.
إذن...؟
هل هناك شك يا صديقي الكريم حول خلو هذه الحياة العفنة من أبسط شروط العدالة الإنسانية، وبالذات بالنسبة لنا معشر الأخدام؟
لقد تبددت كل آمالي في حياة حرة وآمنة ومستقرة في منزل يحيط بي فيه أبنائي وأحفادي وهم يلعبون الغميضة كما يفعل أقرانهم "القبائل".
فلماذا يا ترى تعاندنا أقدارنا!
ولم يقف الجميع صفا واحدا ضدنا؟ بدءاً من الأقدار والمشيئة والتاريخ، وانتهاءً بالمجتمع الفاقد هو الآخر طريقه صوب الحضارة الإنسانية، إلى حد أنني بت أكره هذا البلد من كل قلبي، وأكره شعبه وإرثه وموروثاته وتاريخه ومعتقداته وحضارته وطقوسه البونابرتية "ذات المضمون الدولاني شديد التخلف"، وأكره حتى موقعه في خارطة البشرية!
الأمر الذي يشعرني على الدوام أنني لم أعد ملزما بالولاء لجمهورية صارت وطنا للخطيئة!
يا صديقي الوحيد المتبقي لي وسط كل هذا العهر والبغض والدمار والكراهية العنصرية التي تسمم من حولنا كل مظاهر الحياة الإنسانية، أفدني من أين يأتي كل هذا الكره؟ ولماذا تسود على الدوام لغة العنف والقوة والازدراء؟ ولماذا لايزال معيار الإفك والتفوق العرقي والسلالي هو المحدد الدائم لمسار العلاقات الإنسانية المريضة والمتخلفة؟ وكيف يعقل أن ينبذ شخص ما ويهان ويستعبد لمجرد أن لون بشرته أسود؟ وهل يا ترى في إمكان نزعات البغض والتخلف والكراهية تلك أن تجعل من حياة دعاتها ومروجيها أفضل وأكثر ألقا ورحابة وأمنا ومثالية؟ كيف يمكن لهذا أن يحدث وأن يستمر في الحدوث في القرن الـ21؟
يا صديقي المتبقي وسط كل هذا الحزن والفوضى والألم المستكين، أستحلفك بكل اللحظات الجميلة التي جمعتنا معا، ساعدني لأكفر بكل ما يمت بصلة للتاريخ والمشيئة والبشرية المعتوهة والمشوهة.
ساعدني للانعتاق من قيود الرق الذي لن يتحقق إلا بالتحرر أولاً من أسر التصوف اللاهوتي العقيم لفكر وعقيدة دينية بات من الواضح بشكل لا لبس فيه أنها سممت من حولنا كل مظاهر العفة والشرف والحياة الإنسانية.
اليمن ـ تعز 31 مارس 2020م
المصدر محمد القيرعي
زيارة جميع مقالات: محمد القيرعي