محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -

هل هناك شك في أن مهرجي السعودية والخليج باتوا الآن أكثر قدرة وأهلية لقيادة التطلعات التحررية للشعوب العربية في آسيا وأفريقيا على سبيل المثال؟!
يا إلهي! هاهم اليوم يصنعون السلام مع إخواننا في الله في أورشليم، بعد أن نجحوا في تجريد ثلثي الأمة العربية والإسلامية على الأقل من أية تعابير متبقية للسلام.
عموماً، وبما أن "إسرائيل" باتت تنعم اليوم رسميا بوضع وامتياز الشقيقة الوافدة والوديعة للعرب، فإن الأمر يستحق نوعاً من الإطلالة على تاريخ علاقة السفاح الأخوية تلك، القائمة بين "إسرائيل" وحكام ديارنا المقدسة، لفهم أبعادها ومضامينها الاستراتيجية والأخلاقية، وحتى التاريخية أيضاً.
فها قد مضت سبعة عقود ونصف تقريبا على إقدام مؤسس المملكة عبد العزيز بن سعود على بيع القضية الفلسطينية والعربية مجاناً، عبر موافقته الضمنية في العام 1945 للرئيس الأمريكي روزفلت أثناء اجتماعهما المغلق في إحدى البوارج الحربية الأمريكية، على أهمية إقامة وطن قومي لأصدقائه اليهود المساكين في فلسطين، وهو الموقف الذي كان قد سبق وأبداه بالحماس الانبطاحي نفسه للمندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس.
لكن الوفاق والتطبيع العلني بين مهرجي الخليج والسعودية خصوصا وبين بني عمومتهم في أورشليم لم يحدث إلا في الآونة الأخيرة، وفي أعقاب قمة الظهران الانبطاحية التي عنونتها صحيفة "الرياض" الرسمية الناطقة بلسان النظام السعودي في اليوم التالي مباشرة فور اختتام أعمال القمة، بمانشيت عريض يقول: "قمة الظهران.. سلام مع إسرائيل.. مواجهة مع إيران"... إلخ.
وفي منحى تشير وقائعه بوضوح إلى أن المؤسس عبد العزيز كان أكثر حدة وذكاء ربما من نجله الكهل الملك الحالي سلمان وفتاه المدلل (ديكتاتور الرياض الحالي) محمد بن سلمان الذي جعل من العمالة والانبطاح والتطبيع أمرا علنيا ومقدسا خلافا لجده ولأعمامه الذين أبقوا عمالتهم لأمريكا والكيان الصهيوني وتآمرهم المنهحي على قضية فلسطين والأمة العربية والإسلامية أمرا مبطنا وطي الكتمان إن جاز التعبير، ربما يشعر الفتى محمد بن سلمان بالحاجة الملحة حاليا لارتمائه المتهور في أحضان ترامب وأورشليم لحماية نظامه المترنح، وذلك بالنظر إلى حجم المخاطر والتحديات المحيقة بنظامه السياسي والمتوسعة داخليا وخارجيا بفعل النتائج الكارثية التي أنتجتها سياساته التوسعية والإخضاعية المتهورة التي أنتهجها على صعيد الداخل والخارج، بما أفرزته تلك السياسة من عوائق وعثرات ليس أقلها استنزاف موارد المملكة المالية واهتزاز صورتها عالميا واحتدام حدة الصراع السياسي والطبقي الداخلي وازدياد أعباء المملكة الاقتصادية بفعل مغامرات بن سلمان العسكرية، بالإضافة إلى ما أضافته جائحة "كوفيد 19" من أعباء إضافية على كاهل الاقتصاد السعودي المنهك ليس أقلها فقدان الآلاف لوظائفهم وارتفاع معدل البطالة وتضرر قطاعات إيرادية مهمة للنظام السعودي مثل قطاعات النقل والمواصلات والصناعات التحويلية، بالإضافة إلى انخفاض مستوى الإيرادات المالية المستحدثة مثل الضرائب والرسوم الخدمية والتأديبة ورسوم دخول وإقامة الأجانب التي يحتاجها ابن سلمان بشدة لتمويل مغامراته الصبيانية... الخ.
ولإيضاح الصورة أكثر دعونا نبدأ من الداخل السعودي، حيث يدرك ابن سلمان بعمق أن سطوه الانقلابي على السلطة والذي نفذه أواخر العام 2015 بمساعدة والده وترامب ستكون له مخاطره وعواقبه الكارثية الوخيمة على استقرار ومستقبل نظام حكمه الهش بالنظر إلى الكم الهائل الذي ولدته وستولده تلك الخطوة من أسباب وعوامل الصراع السياسي والطبقي المحتدم والمتوسع باطراد.
وإذا ما أضفنا إليها أمرين أساسيين، أولهما هرولة ابن سلمان المتهورة وغير المدروسة صوب التحديث المجتمعي الذي تحول إلى ما يمكن وصفه بنوع من الانحطاط الأخلاقي في مجتمع محافظ شديد التدين،  بالصورة التي لمستها بجلاء أثناء وجودي في المملكة خلال النصف الثاني من العام 2019، حيث الخمور والمشروبات الروحية والفجور الجنسي باتا يشكلان أبرز معالم الحداثة السعودية السائرة على قدم وساق مع المشروع التطبيعي الذي جند ابن سلمان في سبيله طابوراً واسعاً وعريضاً من كتاب وسياسيي الرذيلة المناطين بمهمة تعبيد الطريق وجعلها سالكة إلى أورشليم "الحبيبة" عبر تسويق شتى الذرائع والمبررات السياسية والأيديولوجية والثقافية والأخلاقية، وحتى الدينية أيضاً، لعل آخرها تلك التصريحات الصادرة عبر قناة "العربية" في الأول من أكتوبر الماضي من أحد أبرز أركان النظام السعودي، الأمير بندر بن سلطان، سفير المملكة السابق (لدى إمبراطورية اليانكي)، والأمين العام السابق لمجلس الأمن الوطني السعودي، والساعي حاليا ربما لنيل رضا ديكتاتور الرياض الحالي محمد بن سلمان، بدليل أنه لم يمثل كغيره من الأمراء المغضوب عليهم أمام لجنة ابن سلمان لمكافحة الفساد لمحاسبته على دوره في صفقة اليمامة التي جنى منها ما يزيد على ملياري دولار وفق محاضر التحقيق البريطاني المسربة في حينه، والذي بلغ به الأمر (أي الأمير بندر) حد مهاجمة الفلسطينيين واتهام قادتهم بتضييع القضية الفلسطينية على حد زعمه... إلخ.
أما الأمر الآخر فيكمن في مناخات الانغلاق والقمع السياسي الداخلي الذي استفحل في المملكة في عهد ابن سلمان بصورة غير مسبوقة ضد خصومه ومناوئيه داخل الأسرة المالكة وخارجها، وبوسائل تنوعت ما بين عمليات التطهير العنيف الذي يستهدف جميع المعارضين السياسيين المحتملين لنظام حكمه الفردي، على غرار عملية اغتيال المعارض المنشق عدنان خاشقجي، أو عبر أعمال الاعتقال الإداري المفتوح والحجز والإخفاء القسري للمناوئين الذين غالبا ما يتم تنفيذ أحكام الإعدامات التعسفية بحقهم، والتي طالت منذ سيطرة محمد بن سلمان وعبر القنوات القضائية معارضين مدنيين وسياسيين بالجملة، وأغلبهم من الطائفة الشيعية، لعل أبرزها واقعة إعدام رجل الدين الشيعي الشيخ نمر باقر النمر... إلخ. 
الأمر لا يحتاج إلى تأويل حول المدى الذي ولده وسيولده إرهاب ابن سلمان القمعي على صعيد توفير الظروف الجيوسياسية والاجتماعية الملائمة لتعاظم الوعي السياسي الجماهيري المناوئ لنظام حكمه، والذي بدأ بالاتساع بصورة ملفتة ودالة على اكتساب معارضيه للخبرة النضالية اللازمة والمنظمة لبلوغ مرحلة النضج الثوري الحقيقي بالصورة التي يمكن تبيانها بوضوح من خلال الإمعان في فحوى الشعارات المناوئة المكتوبة التي بدأت تبرز بوضوح وكثافة بالغين عرض جدران الأسوار في المدن الرئيسية والتي لمستها شخصيا (ورب أطفال الصفيح) أثناء تجوالي في جدة والرياض العام الفائت 2019... إلخ.
أما على المستويين الدولي والإقليمي، وإن كان نظاما الرياض وأبوظبي تحديدا قد نجحا بشكل أو بآخر خلال قرابة عقد مضى ومن خلال سلوكهما التآمري المشين في شن حرب عدوانية شعواء ومدمرة ضد شعبنا وبلادنا اليمن، بالإضافة إلى نجاحهما الضمني أيضاً في تفتيت وشرذمة ثلثي الأمة العربية على الأقل، من خلال إيغالهم السخي في تمويل الصراعات الداخلية وخلق وتوسيع الانقسامات السياسية والاجتماعية والطبقية في كل من سوريا وليبيا واليمن ولبنان ومصر والسودان، وإيغالهما بدعم وتكوين التشكيلات المليشاوية والاحترابية، كما هو حاصل بقوة في كل من سوريا وليبيا واليمن... إلخ؛ إلا أن نجاحهما التآمري ذاك قابله العديد من الإخفاقات السياسية والأيديولوجية وحتى الأخلاقية التي حجمت كثيراً دور ونفوذ وحضور وتأثير النظام السعودي تحديدا على المسرح الدولي ككل.
فمن ناحية أولى أثبتت أحداث حرب التحالف العدوانية المباشرة ضد شعبنا وبلادنا بقيادة الرياض، وكذا حربهم المعلنة بالوكالة ضد الشعب الليبي على سبيل المثال، ليس فحسب مدى الصعوبة البالغة التي تكتنف مهرجي الخليج في تحقيق أية إنجازات عسكرية فعلية أو انتصارات سياسية يعول عليها رغم ضخامة الإمكانيات التي وفروها في مساعيهم التفكيكية تلك ورغم مئات وربما آلاف المليارات من الدولارات التي ضخوها ويضخونها بشكل يومي ومنظم لأعوانهم ومرتزقتهم في كلا البلدين... إلخ، بقدر ما أسهمت (أي سياستهم العدوانية تلك) بخلق تحول جوهري في بنية الوعي الجماهيري الخليجي والعربي الآخذ في الاتساع بصورة جمعية ضد مهرجي الخليج وأنظمتهم المتهاوية.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك مدى التخلف السياسي والتكنولوجي والعسكري الذي يعتري نظام ابن سلمان بالصورة التي بينتها أحداث الحرب الراهنة والانقسامات الاجتماعية الأساسية، إلى جانب الإدارة الفاشلة الكارثية للحرب والهزائم العسكرية المتواصلة على يد الحوثيين واضطراب الاقتصاد المحلي وتوالي الفضائح الملكية المتصلة بفساد النظام الملكي وجرائمه المتواترة على صعيد الداخل والخارج، فإن الصورة تبدو جلية وواضحة، وهي أنها أسهمت في مجملها بفضح وتعرية النظام السعودي أمام العالم أجمع بالشكل الذي يمكن قياسه من خلال توسع مظاهر النبذ السياسي والأممي الذي يطال النظام السعودي على صعيد العالم أجمع، لعل آخرها فشله في اكتساب عضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وقبلها فشله في الحصول على موافقة أقرب حلفائه الأوروبيين والأمريكيين لعقد اجتماع مجلس البلديات في إحدى مدن المملكة وعواصمها الرئيسية، بسبب سجله الإنساني الحافل بالجرائم المرتكبة ضد معارضيه على غرار خاشقجي أو ضد جيرانه كما هو حاصل من ستة أعوام ضد شعبنا وبلادنا... إلخ.
والإنجاز الوحيد الذي نجح النظام السعودي وابن سلمان بتحقيقه هو في الضغط على الأمم المتحدة لرفعه من قائمة العار فيما يخص إيغاله بقتل أطفالنا، رغم إخفاقه الواضح بمحو هذه الصورة عن أذهان البشرية المتحضرة.
خلاصة القول أنه لا شيء طبعا يبرّر قيام مهرجي أبوظبي والمنامة، ومن بعدهم الخرطوم، بإقامة علاقات كاملة مع "إسرائيل"، لا على الصعيد الفلسطيني ولا على المستوى القومي، ولا حتى على صعيد إماراتهم ودولهم المهترئة نفسها.
إلا أن تلك الخطوة جاءت بضغط وإيعاز مباشر من الرياض ومن ديكتاتورها الحالي محمد بن سلمان، ولأسباب عدة، أبرزها:
1 ـ إسناد مولاهم المترنح (دونالد ترامب) في معركته الانتخابية، في محاولة يائسة من قبل مهرجي الرياض وأبوظبي للحفاظ على استمراريته في الحكم لدورة ثانية على الأقل ستكون كافية من وجهة نظر ابن سلمان لتعزيز وترسيخ مشروعه الانقلابي على السلطة وتأمين حكمه في المدى المستقبلي، خصوصا مع ما أبدته إدارة ترامب منذ بداية حكمه من مرونة مفرطة في دعم تطلعات ابن سلمان التوسعية وتغطية أفعاله الصبيانية وتأمين الحماية الاعتبارية اللازمة له من تبعات الملاحقات والمساءلة الدولية التي تستهدفه على جرائمه المتواترة والمرتكبة، سواء ضد معارضيه السياسيين في الداخل السعودي أم ضد أطفال ونساء شعبنا اليمني.
2 ـ حاجة ابن سلمان الاتكالية إلى حلفاء جدد مثل "الإسرائيليين" الذين يمتلكون في الواقع ما تفتقر إليه الرياض، أي التكنولوجيا والقوة العسكرية التي كان بإمكان السعوديين تحقيقها، أي حاجتهم من القوة والتكنولوجيا خلال قرن من نشوء مملكتهم الهزلية لولا أنهم فضلوا الاعتماد والاتكالية على الغير مفضلين بناء وطن ومجتمع استهلاكي متخم وعاجز عن الدفاع عن كيانه وعن ضمان وجوده... إلخ.
هذا الأمر دفعهم للاستعانة بنتنياهو بغية الاستفادة الممكنة من تفوق بلاده التكنولوجي والعسكري في مواجهة خصومهم الأقوياء مثل إيران، ولحماية ممالكهم ومشيخياتهم المترنحة من شعوبهم.
فهل يعتقد السعوديون والخليجيون يا ترى أن تحالفاتهم مع "إسرائيل" ستجنبهم لعنات شعوبهم والأمتين العربية والإسلامية؟!... وللحديث بقية.


* الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني
للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات