محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
في اليوم الأخير من شهر مايو الفائت وفي تمام السابعة من صبيحة ذلك اليوم الاثنين 29/5/2023، قرر أحد مبندقي الخونج بمدينة تعز السليبة، ويدعى مطيع ثابت الأعرج، والذي يشغل وظيفة أركان حرب إحدى الكتائب المنضوية في ما يسمى "اللواء 22 ميكا" التابع لمحور تعز المحتلة بقيادة المدعو خطاب الياسري الذي يكنى بلقب "الوالد" والذي يحظى في الوقت ذاته -أي هذا الوالد- بسجل إجرامي واسع النطاق خصوصا وأنه من أتباع أمير الحرب الإخواني حمود سعيد المخلافي، بدء يومه بطقس دموي أكثر هولا وفظاعة مما اعتادوا ارتكابه بشكل يومي وبوتيرة ثابتة في حق الوطن ومستضعفيه منذ بدء العدوان.. فلم يجد أمامه سوى الطفل المهمش يزن جميل حسن عبده سيف الذي لم يكمل ربيعه السابع بعد.. ليرديه قتيلا وأمام ناظري والديه وباقي سكان المدينة من مجتمع المهمشين البائسين وخائري القوى جراء ما يقاسونه من جور وظلم ودنس عدواني طيلة سني الحرب الفاشية باسم المقاومة الوطنية المحمومة على إيقاع "يا فرح يا سلا".
ولم يطل الوقت بعدها حتى كان والدا الطفل الضحية المهمش مدعوين من قبل جلاوزة الإصلاح لإقرار تنازلهما الطوعي والفوري وغير المشروط عن دم صغيرهما المغدور كما جرت العادة دائما في مثل هذه الحالات التي تعد بديهية للغاية حينما يتعلق الأمر بـ"خادم" منقوص القيمة والكرامة والهوية والشخصية الإنسانية.
فمثلما دأبوا على سلب أرواحنا بالمجان.. كذلك استحوذوا على صمتنا وبصماتنا ورضوخنا لمقتضيات المشيئة المختومة هذه المرة بدمغة الخونح.. من منطلق أن ما حدث قضاء وقدر.. وتنفيذ حتمي لمشيئة الرب الذي نالا -أي والدي الطفل المغدور- حظوته في الأعلى وفق تبشير المطاوعة ذاتهم من خلال تكرمه -أي الرب- بمنحهما منفعة مزدوجة عبر اختيار طفلهما المقضي عليه بواسطة مبندق خونجي لتجنيبهما من ناحية أولى تبعات عقوقه لهما في مستقبل دنياهما.. والاستفادة من ناحية أخرى من شفاعته المؤكدة لهما في الآخرة.. فهو خط مرورهما الآمن إلى الجنة التي لا يمكن ولوجها إلا بموجب صك تزكية مباشر ممنوح من الزنداني أو الحجوري ومن والاهما، قاتلهم الرب.
ومع أنه لا خلاف هنا حول حقيقة كون هذه الجريمة بحد ذاتها وعلى خلاف أغلب جرائم المطاوعة المرتكبة في حق البلاد وناسها تشكل من وجهة نظرنا.. ومن المنظور الإنساني أجمع انعكاسا فعليا للبعد الحقيقي للهمجية الإخوانجية وجلاوزتها الذين دشنوا منذ بداية العدوان موسما مفتوحا من العنف العرقي والطبقي المحموم ضد الأفراد والتجمعات البشرية المهمشة على السواء.
لكن تخيلوا معي للحظة ما الذي قد يكون جال حينها يا ترى في مخيلة الضحية ذاته، هذا الطفل الصغير الهزيل الشاحب والذي لم يتسن له معاصرة الحياة بعد.. وهو يُردى بالرصاص؟
ما الذي مر أمام عينيه الجاحظتين في تلك اللحظات بالضبط.. لحظاته الأخيرة وهو يتهاوى مضرجا بدمائه؟ أهي ذكريات طفولته البائسة التي عاشها كمهمش وسط مجتمع بربري أنكر عليه طفولته وآدميته وحقه الطبيعي في الحياة، أم هو إحساسه الذاتي بوطأة الجرم المرتكب بحقه آنذاك وهو يشعر بروحه تنتزع منه قسرا في بادرة موت مجاني وعلى يد قتلة ملتحين لا يتورعون عن انتهاك أسمى وأقدس السمات الإنسانية باسم الرب والملة والعقيدة والوطن؟
إنه السؤال الذي يلح في ذهني باستمرار ومع سقوط كل ضحية جديدة من وسط فئاتنا المهمشة الذين لا ناقة لهم ولا جمل في معمعة الصراعات الاحترابية الدائرة (فهي حرب تخص القبائل إجمالا)، وإن كان الكره المتولد من رحم هذه الحرب المجنونة والمتنامي ضدنا معشر "الأخدام" والمهمشين يجعلنا أسرى للسؤال الأكثر حيرة وإلحاحا والمتمحور ربما حول السبل الكفيلة التي يمكننا بواسطتها الآن ومستقبلا (كضحايا) تجنب هذا الشر الخونجي المطلق.. كيف يمكننا إبطال تلك القوى المليشياوية التي استمرأت قتلنا والمبندقة بمباركة المجتمع الدولي ذاته الذي يجهد في صبغ الشرعية السياسية والوطنية عليها وعلى حساب ضحاياه أيضا رغم كل ما ارتكبته وترتكبه منذ نشوب الحرب والعدوان من جرائم يندى لها جبين الإنسانية.
كيف يمكن لنا إخماد بواعث العنصرية وفيزياء الكراهية العرقية المنبعثة هذه المرة بقوالب لاهوتية بحتة ضد من لا حول لهم ولا قوة؟
نحن نعلم أن الناس تقتل حاليا وفي ظل مناخات الإرهاب الديني والسياسي والمذهبي السائدة والمستفحلة لمجرد إلقاء بعضهم التحية على كاهن أو "مشرف حوثي"، لكن ما نطلبه كمهمشين هو أن نحظى كمظلومين بالكرامة حتى في موتنا المجاني.. وأن نشيع دون تجريد كلي لأرواحنا المستباحة من أبسط حقوقها في التكريم الواجب منحه لـ"البني آدميين" ولو على شكل أمل واه بالعدالة المستلبة هي الأخرى كغيرها من مظاهر الحياة الإنسانية من حولنا.
فلمن ينبغي أن نُسمع أصواتنا بعد أن هجرنا الجميع، فالمشيئة لم تكن يوما في صفنا، كما أن المجتمع الدولي منشغل بتوازناته المركبة، والأمر ذاته ينطبق على قادة ثورة الحادي والعشرين من أيلول 2014، الذين غاصوا في متاهة الحوارات الفارغة، متناسين حقيقة أن المستضعفين أمثالنا باتوا قرابين فعلية للهدن المتلاحقة التي لم تعد كافية لإقناعنا أن الفرح سيحل يوما على أنقاض هذا البؤس والشقاء المتشظي وسط آلامنا اللامتناهية.

أترك تعليقاً

التعليقات