هل يتعين علينا كـ«مهمشين» إبداء الولاء لوطن كل ما فيه يرمز للدنس؟!
- محمد القيرعي الجمعة , 7 مـارس , 2025 الساعة 10:52:31 PM
- 0 تعليقات
محمد القيرعي / لا ميديا -
تخيل نفسك تعيش مثلي وعلى شاكلتي، كمهمش في بلد تمثل الطبقية التراتبية فيه أساس نظامه الاجتماعي المعتل، والمختل، فيما ينحصر موقعك الطبقي والفئوي فيه وبشكل قسري وإلزامي في أدنى هرمه الاجتماعي، المعتم.
فيصبح هو ذاته الوطن الذي يمقتك ويدينك وينبذك ويحتقر ذاتك وآدميتك، ويجردك من شخصيتك الإنسانية، ويعزلك وأبناءك، وأقرانك قسراً عن محيط طبقاته وعشائره الاجتماعية والعرقية الفوقية المختلفة جراء لون بشرتك الداكنة التي تُجرَّد على ضوئها من كافة حقوقك المدنية والسياسية والطبقية والانسانية والشخصية.
وطن كل ما فيه، وكل ما يمثله، لا يرمز إلا للزيف، والبغض، والدنس، والرذيلة، والكراهية بأسوأ أشكالها وأكثرها خسة وانحطاطا.
وطن تجيز أعرافه وقيمه الاجتماعية الموروثة تجريدك كمهمش من كل ما هو ممكن لنيل حياة آمنة وعادلة ومستقرة، بحيث يبدو وجودك في هذه الحالة، وهويتك الطبقية، وشخصيتك الآدمية، لا معنى لها البتة. فكل ما له صلة بإرثك وهويتك مشطوب كلياً من قاموس وخارطة المواطنة العادلة وغير المعترف بها.
فيما أنت تبذل قصارى جهدك، كفرد منبوذ ومهمش، للحيلولة دون فنائك المجاني، مقدماً بذلك الغالي والنفيس في سبيل البقاء الذي لا يمكن ضمانه دون التضحية الطوعية بكافة حقوقك وتطلعاتك وبأمنك الشخصي وأمن عائلتك لإرضاء القبائل، كطبقات سيادية فوقية ومتعطشة للفوضى والاستبداد.
تخيل نفسك تعيش وسط هذا المزيج الفريد الذي ولدته ظروف وطن متعثر بمجتمع أكثر عوزاً وتعثراً، لينتج حالة خاصة ومتفردة، أسفر عنها إنتاج وتكوين أسس النظام الاجتماعي العنصري الأكثر شراً ورسوخاً في العالم أجمع.
هذه ميزة لا تتكرر في الغالب سوى في بلدنا؛ ميزة التكامل ما بين وطن مدنس ومجتمع أكثر دنساً ووضاعة وابتذالا... مجتمع سبق النازيين في تطبيق قوانين النقاء العرقي بما يربو على الخمسة عشرة قرناً كاملة، بحيث يستحيل على ضوئها وفق قوانينه وتقاليده الموروثة، لقبيلي مهما انحط وضعه وتضاءلت مكانته الاجتماعية والطبقية، الاقتران بإحدى نسائنا المهمشات، مثلما يستحيل في الوقت ذاته على مهمش بائس مثلي الاقتران بإحدى نسائهم؛ فأمر كهذا يعد محرماً قطعاً، أكثر من حرمة (أي مجتمع القبائل) دمائهم وأموالهم وأرواحهم.
فالقبيلي الذي فرض مثل تلك القيود التجريمية القطعية لمنع اختلاطنا بهم، تجده وبكل أريحية يبيح لنفسه (وبغض النظر عن التزامه الديني الظاهري) ارتكاب شتى أعمال الفسوق والرذيلة، بدءاً بأعمال القتل والتقطع واستلاب أموال وأرواح الآخرين أيا كانوا، من منظوره الشرفي والاستعلائي المزيف، بوصفها من المهن الشرفية الراسخة والمتوارثة التي لا يجوز المساس بقدسيتها أو حتى انتقادها، وفق أعرافه وتقاليده الماضيوية الراكدة.
ومع هذا لا يزالون، أي مجتمع القبيلة التقليدي، هم الأعلين في المجتمع، والفائزين دوما، رغم انطباق التشخيص السماوي على مجونهم، والذي لخصه رب القبائل في سورة البقرة بقوله: "الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ".
فهم لم يخسروا البتة، حتى الآن على الأقل، من الناحية العملية، بحسب وعد الرب، رغم مضي قرون زمنية طويلة على فسقهم ومجونهم الاستبدادي والديني أيضا، الذي استخدموه وبشكل فعال لتكريس نمط الاستعباد المشاعي المكرس ضد ضحاياه التاريخيين بصورة متوافقة من قبل الجميع، سلطات حاكمة ومتعاقبة، ومجتمع مجزأ ومتنافر توحده فقط القيم العنصرية.
فمثل هذا المجتمع الذي لم ينفك رغم بلوغ العالم من حوله سدة التسيد على الكون بأكمله، يقدم المزيد من البدع والذرائع والأدلة التاريخية المشوهة والمنبثقة من مخيلته المعتلة حول عدم جواز الإقرار بآدميتنا المستلبة (معشر "الأخدام")؛ لكوننا من منظوره الشاذ جنساً بشرياً منحطاً، وعرقية ملوثة بالدنس والرذيلة الذي يسود حياتنا. كما دأبوا على تصويرنا على امتداد تاريخنا الوجودي بينهم، من خلال مروياتهم الشعبية المتوارثة، على غرار مقولاتهم وأمثالهم الشعبية المكرسة لنبذنا وعزلنا، كالمثل الشعبي القائل: "ماشي الخادم ولا تأكل معه" أو المثل القائل: "لا يغرك حسن الأخدام والنجاسة بالعظام"... إلى حد تبشيرهم المروي التاريخي في السياق ذاته بجواز استعباد نسائنا المهمشات جنسياً من خلال مثلهم الشعبي الموروث والمتوارث والقائل: "الخادمة حلاوة سيدها".
والأمثلة كثيرة ومتعددة على ذلك، والتي سنخصص لها في موادنا القادمة حيزاً كافياً. وحتى ذلك الحين ما علينا سوى التمني ألا ينعم هذا المجتمع بالأمن والأمان والسكينة في حاضره ومستقبله، كما ماضيه، لأنه لا يستحقها.
المصدر محمد القيرعي
زيارة جميع مقالات: محمد القيرعي