محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
هناك هلع غير مسبوق يجتاح «أورشليم» للمرة الأولى منذ نشأة كيانها الفاشي، فحركة الملاحة الجوية في مطار بن غوريون لم تعد آمنة جراء صواريخ القسام المنهمرة عليه باستمرار، فيما العديد من دول أوروبا والعالم بدأت بإرسال طائراتها العسكرية والمدنية لإجلاء رعاياها ودبلوماسييها من «تل أبيب»، في الوقت الذي باشرت فيه سلطات الاحتلال منذ بدء نكبتها الحالية على أيدي أسود المقاومة بإخلاء عشرات المستوطنات المحاذية لقطاع غزة، وإلزام مواطنيها من قاطني المستوطنات المحاذية لمزارع شبعا اللبنانية بالنزول والاختباء الجماعي في الملاجئ المحصنة تحت الأرض إلى أجل غير مسمى هربا من صواريخ وقذائف حزب الله اللبناني.
ترى ماذا لو كانت حركة حماس وحزب الله على سبيل المثال يسودان أو يحكمان نظامين عربيين محاذيين لدولة الكيان الصهيوني، كيف كان سيكون مصير «أتباع يهوه» في هذه الحالة يا ترى؟ وهل كان سيكون في مقدورهم -أي الصهاينة- التمتع بذلك القدر من الأمان والسكينة اللذين حظوا بهما على مدى العقود السبعة الفائتة من خلال تعايشهم الانسجامي والأخوي المشترك مع أنظمة العمالة والرجعية العربية، إن كان تبقى لهم وجود أصلاً؟
ثم، ألا تشكل هذه المعادلة الوليدة من رحم المقاومة التي لا تلين لحماس وحزب الله فضحاً وإذلالاً وإحراجاً لأنظمة الدناءة العربية المندثرة منها والسائدة؟ ألا يجعل منها هذا الوضع الملحمي أيضاً مجرد أضحوكات في نظر شعوبهم والعالم، بالنظر إلى حجم الإنجازات التحررية القومية التي تحققت حتى الآن على يد هذه التنظيمات الثورية (المحدودة القدرة والإمكانيات) قياسا بالنتائج العكسية المحققة في هذا المضمار من قبل أنظمتنا الرسمية التي لاتزال تشكل حتى اللحظة أبرز العوائق الماثلة والمستعصية أمام اندفاع طوفان الاجتثاث الحتمي لا محالة للكيان، طال الوقت أم قصر؟
بالطبع كان يمكن لهذا الهلع الذي يعيشه الصهاينة حاليا على إيقاع طوفان العزة المنبثق من عمق آلام ومعاناة الأمة أن يبدأ في التحقق الفعلي في مرحلة مبكرة جدا من وجودهم، ولكان تاريخ وجغرافية المنطقة قد أصبحا مختلفين تماما عما هما عليه الآن، ولكان الوجود «الإسرائيلي» بحد ذاته أيضاً مجرد جزء من دروس التاريخ القديم والمندثر المدرجة كمقررات رسمية ضمن مناهجنا الدراسية، لولا أن حجر العثرة الرئيسي أمام إمكانية تحقيق مثل هذا المسعى الثوري والتحرري النبيل، ظل ولايزال ماثلا وعلى امتداد الوجود «الإسرائيلي» المشؤوم في وجود أنظمتنا العربية المتعاقبة والحاكمة بما أنزل عليها من «أورشليم» وإمبراطورية اليانكي «أمريكا»، وليس بما أنزله الله عليهم أو لما تقتضيه معقداتنا الثقافية والدينية وكرامتنا وهويتنا العروبية والقومية المستلبة منا عنوة وغيلة بفضل تفانيهم اللامتناهي أصلاً في خدمة أسيادهم الصهيوأمريكيين على حساب أمن ومصالح وتطلعات شعوبهم ومجتمعاتهم.
ففي حرب الاجتثاث الفاشلة التي شنتها «إسرائيل» في تموز/ يوليو 2006 ضد حزب الله ولبنان معا، فإن كلفة الحرب المادية لهذه العملية استحصلتها الخزينة «الإسرائيلية» وبشكل واف من الخزينتين (السعودية والإماراتية) اللتين أسهمتا بسخاء آنذاك في تغطية النفقات الحربية لإخوانهم في «أورشليم» بهدف تمكينهم من اقتلاع حزب الله ومقاومته من جذورهما لتهيئة الأجواء لـ«سلام عربي -إسرائيلي» شامل، بغية التئام الجانبين «إسرائيل وإخوانهم العرب» بما يمكنهم من التفرغ لمواجهة «المد الفارسي المجوسي الوثني» الخارج عن الجماعة والإجماع، والمقصود هنا إيران والمحور المقاوم التابع لها على امتداد المشهدين العربي والإسلامي.
وهي الحقائق التي أشار إليها وفي حينه أيضا نائب وزير الدفاع الأمريكي في إدارة جورج بوش الابن (بول وولفيتز) والمقال آنذاك على خلفية هزيمة الجمهوريين في الانتخابات النصفية التشريعية في أمريكا، في محاضرة له ألقاها في العام نفسه في معهد «آيباك» الصهيوني في واشنطن، والأمر ذاته ينطبق بكل تأكيد على الحروب «الإسرائيلية» اللاحقة والمتوالية ضد شعبينا في لبنان وفلسطين، وصولا إلى عدوانها الراهن ضد أطفال ونساء وشيوخ ومدنيي غزة الذين باتوا يعانون من وطأة حصار السيسي لمنفذهم ومتنفسهم البري الوحيد مع العالم الخارحي (معبر رفح) أكثر من معاناتهم المعتادة من لهيب القصف الوحشي واليومي للقاذفات والبوارج «الإسرائيلية» على أحيائهم ومنشآتهم وأسواقهم، وذلك انطلاقا من كون العدوان الصهيوني في الأصل بات من المسائل المألوفة والمعتادة التي تفرضها شروط النزال والصدام القائم ما بين شعب دخيل ومحتل وبين شعب مظلوم وحر يتوق للخلاص من نير هذا العسف والاحتلال.
فيما إغلاق المعابر من قبل «سيسي الخطيئة» ومنع المساعدات واللاجئين من التدفق جيئة وذهابا ومن قبل أشقائنا المفترضين في الدين والعروبة هو أمر دفعني للتساؤل (كملحد بامتياز لا يشرفني أصلاً مشاركة معتقد ديني واحد مع أمثال هؤلاء المسوخ): ما إذا كان هذا الموقف الشاذ (المصري والخليجي عموما) يندرج في إطار ما قال تعالى: «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ..»، فهل غزة والغزاويون هم الفئة الباغية وفق هذا المنظور العقيم من وجهة نظر مسوخ العقيدة هؤلاء في مصر والخليج الفارسي؟
في النهاية، ربما لايزال تحالف جمع الرذيلة هذا (الصهاينة والأمريكان وخدامهم العرب) غير قادرين حتى اللحظة على إدراك حقيقة أن تجارب النضال الشاقة والمريرة أكسبت الفلسطينيين المناعة الكافية التي تمكنهم من العيش في مختلف الظروف البائسة والتصدي لمجمل المخاطر والتحديات الناشىة مهما بلغت حدتها وصعوبتها، والتي تقيهم في الوقت ذاته مغبة الانجرار والسقوط في مستنقع الرضوخ والتبعية المهينة، مثلما لم يدركوا أيضاً أن إعصار وطوفان المقاومة العربية والإسلامية الآخذ في الاتساع اليوم، ربما لن يتوقف فحسب، وهذا مؤكد، عند حدود إنجاز هدفه الأسمى والمتمثل بإزالة كيان الصهاينة واستعادة الأرض والحقوق المستلبتين، لأنه وبحكم تجارب النضال الشاقة والماضية، فإن المسألة ستتطلب أولاً وبدون شك العمل على تأمين وتهيئة كافة الظروف والمناخات (الأيكولوجية) والجيواستراتيحية اللازمة للدفع بعجلة التحرر هذه إلى غاياتها الوطنية والقومية المثلى والسامية، والتي لن تتحقق بالتأكيد إلا على فرضية الإزالة الوقائية أولاً لمصادر عيش وبقاء وشرعية واستمرارية هذا العدو الجاثم فوق ظهرانينا، والمتمثلة بحتمية الاجتثاث أولاً، لأي مظاهر أو كيان يعبر عن ميراث العمالة والتبعية الموروث في محيط أنظمة الحكم التي بلغت حالة من الإفلاس الفعلي في نظر شعوبها والعالم بالنظر إلى تنامي مشاعر الرفض والمقاومة الآخذ في الاستعار على امتداد المشهدين العربي والإسلامي، لدرجة أن بقاء غالبيتها في الحكم بات مرهونا فقط بما تمتلكه من قوى إخضاعية ومن إسناد مفتوح ومباشر لكراسيها المهترئة والصدئة من قبل أسيادها في الغرب و»أورشليم»، وليس بالاستناد على دعم وولاء شعوبها.

أترك تعليقاً

التعليقات