محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
كلما تصدعت العلاقات السياسية والعسكرية بين عملاء ومرتزقة العدوان في النطاق الجنوبي المحتل، والمقصود هنا العلاقة بين انفصاليي أو انتقاليي الجنوب من جهة ومليشيات الأفندم هادي وأعوانه من جهة أخرى فما علينا سوى الإمعان بموضوعية صوب العلاقة القائمة والمتغيرة ما بين قطبي الاحتلال الرئيسين (الرياض وأبوظبي) لندرك أن حروبنا المتوسعة في الداخل ما هي إلا انعكاس في الواقع أو مؤشر إلى التصدعات الناشئة بين السعودية والإمارات... وهلم جرا.
ففي تصريح إلى قناة "الجزيرة" في يونيو الفائت، وتعليقاً على قرار "المجلس الانتقالي الجنوبي" وقف كافة أشكال التواصل مع كل الأطراف المعنية بـ"اتفاق الرياض"، أفاد المدعو علي عبدالله الكثيري، الناطق الرسمي باسم "المجلس الانتقالي الجنوبي"، بأن كل الخيارات لدى قيادة المجلس مفتوحة لإنقاذ شعب الجنوب البائس، على حد وصفه، وأن تحرير شبوة وغيرها من الاحتلال بات من أولويات أهداف مجلسه الموقر!
هذا الموقف أكده أيضاً مسؤول الدائرة السياسية في الانتقالي، خالد بامدهف، في مقال لصحيفة "الشرق الأوسط" هذا الأسبوع: "لقد وضع شعب الجنوب تحت وطأة الاحتلال الشمالي الذي لا يمتُ لدولة الوحدة بأي صلة…"!
شبوة محتلة بالطبع، وغيرها أيضاً من مناطق الحزام الجنوبي؛ ولكن محتلة ممن يا ترى؟!
من منظور انفصاليي الجنوب هي محتلة من قبل مليشيا "الأفندم هادي وأعوانه الإخوان" بالتأكيد، وليس من قبل مهرجي الرياض وأبوظبي؛ لأن هؤلاء هم محررون في الأصل وفق روابط الأخوة والنخوة والانتماء العروبي الأصيل الممتد كما هو معلوم من عمق الشقيقة أورشليم إلى القصور الزجاجية في أبوظبي... إلخ.
هذا الموقف دفع بمواطن مسن وشبه أمي تقريبا صودف تناوله لوجبة الغداء معي آنذاك إلى التعليق ببديهية مطلقة بأن أبرز إنجازات الأفندم هادي تتمثل في أنه أعادنا كشعب إلى مربع العبودية لـ100 سنة قادمة على الأقل!
وهذا صحيح من وجهة نظري 100%، لكونه يعكس في الواقع حالة تشخيصية دقيقة للراهن الوطني اليوم. فأوصال اليمن تتقطع اليوم بفعل جملة من العوامل، بدءا بالتدخّل الخارجي ومرورا بتنامي مصالح المليشيات المتصارعة في الداخل في ظل الانعدام التام للمشاعر الوطنية، وتوسع نطاق الحروب والمواجهات الداخلية، وتنامي معايير الفوضى والانقسام الداخلي، وتسارع معدلات الانهيار الاقتصادي... إلخ. 
فخطوط التصدع الإقليمية والجغرافية القديمة تظهر مجدداً مقوِّضةً وحدة اليمن، من دون تقديم أية حلول وطنية بديلة.
صحيح أن التشظّي الحادّ الحاصل في المشهد السياسي الجنوبي يجعل من فكرة استعادة دولة جنوب اليمن أمراً مستبعداً إلى حدّ كبير، لكن مسألة الوحدة تبقى عرضة لشتى الاحتمالات الخطرة وقابلة للاستغلال من عديد من اللاعبين الخارجيين، بمن فيهم "الشقيقة الصغرى أورشليم" التي تجهد عبر ربيبتها أبوظبي في إيجاد موطئ قدم لها في جزر البحرين الأحمر والعربي عبر سعيها الواضح للسيطرة على أرخبيل حنيش وجزر ميون وسقطرى... إلخ.
فمن وجهة نظري وحتى لو تمكن انفصاليو المجلس الانتقالي بطريقة أو بأخرى من استغلال الظروف والمتغيرات الراهنة لتحقيق مشروعهم القومي بإعلان الانفصال، فإن نطاق دولتهم الوليدة لن يتعدى بطبيعة الحال حدود منطقة "بئر علي" في أطراف محافظة شبوة. والسبب يكمن في أن الحضارم لديهم أيضاً هوسهم الانفصالي الذي لا يخفي طموحاتهم القديمة المتجددة بدولة حضرمية مستقلة، ولأسباب سنحاول تلخيصها على النحو التالي:
أولاً: من المعروف تماما أن التطلعات القومية الحضرمية بدأت بالنمو بشكل مبكر من تاريخ ثورة أكتوبر 1963 في الجنوب بالنظر إلى تحصلهم آنذاك، وتحديدا في العام 1967 أي عام استقلال الجنوب، على قرار أممي صدر آنذاك عن مجلس الأمن الدولي يقضي بتمكين الحضارم من الاستفتاء حول حق تقرير المصير. 
صحيح أن القرار الأممي الخاص بتمكين الحضارم من تقرير مصيرهم ولد ميتا في حينه، بسبب تشابك العلاقات الدولية القائمة آنذاك بين قطبي العالم (أمريكا والاتحاد السوفييتي) واتكالنا في الجنوب على الإسناد اللوجستي من قبل الكتلة الشيوعية، إلا أن إمكانية إيقاظ مثل هذا القرار باتت واردة الحدوث بالتأكيد في ظل الأوضاع والمتغيرات الراهنة من جهة، ولتوافق مضامينه أصلا من جهة أخرى مع المطامع السعودية التاريخية والمتمحورة أساساً حول إقليم حضرموت والمحكومة برغبتها الدائمة في الحصول من خلاله على ممر ملاحي مائي عبر بحر العرب لضمان تصدير نفطها بعيدا عن إشكالات مضيق هرمز والبحر الأحمر... إلخ.
الأمر المؤسف في كل ما يحدث، والأكثر إثارة ربما للاشمئزاز، يكمن في أنه وفي موازاة القادة والمفكرين الثوريين التاريخيين العظام الذين خرجوا من رحم حركة الكفاح التحرري والوحدوي الوطني في الجنوب، أمثال فتاح وشائع وعنتر ومصلح والعشرات غيرهم ممن سطروا أروع الملاحم الوحدوية في تاريخهم الكفاحي الوطني الطويل، تطل علينا اليوم ومن رحم الارتكاسة الثورية الراهنة في الجنوب مجموعة انتهازية تحاول إعادة صياغة التاريخ الوطني بصورة وضيعة ومبتذلة، وذلك انطلاقا من كون أغلب الأعضاء والقيادات الذين انخرطوا بصورة مباشرة في الحركة الانفصالية هم في الواقع بعض الرواسب والطفيليات المحسوبة سهوا على أبرز الحركات الثورية والوحدوية الوطنية، حركة الثورة الاشتراكية في الجنوب وأداتها الثورية الرئيسية (الحزب الاشتراكي اليمني).
فمن عيدروس الزبيدي وفضل الجعدي وناصر الخبجي وصلاح الشنفرة وصلاح منصر والعشرات غيرهم ممن نالوا عضوية لجنته المركزية ومكتبه السياسي، إلى الفتى المدلل شلال شائع، نجل أبرز قادة ومؤسسي وشهداء الحزب التاريخيين، والذي يجهد في توظيف إرث ونضالات والده الذي كان مجرد ذكر اسمه يثير الذعر في قلوب الخليجيين بطريقة عكسية ومبتذلة... إلخ.
وبالطبع لا توجد طريقة معينة للتعريف بتلك الطفيليات الانفصالية سوى أنهم يشكلون في الواقع نسخة حديثة من شيوعيي جنوب أفريقيا الذين رفعوا في أحد الإضرابات العمالية إبان نشأتهم الحركية الأولى في العام 1922 لافتة تقول: "عمال العالم يقاتلون ويتحدون من أجل جنوب أفريقيا بيضاء"!
من كان يتصور مثلا أن عدن الحبيبة التي ألهمت في السابق خيال الكتاب والشعراء ممن أسرتهم فكرة الوحدة والثورة والحرية، والمنطقة التي حملت وتحملت أعباء مشعل التنوير الثوري والحضاري والوطني، حينما كانت توصف وتحديدا خلال العقود الأربعة الأخيرة على الأقل من القرن العشرين بأنها نقطة الاستقطاب الرئيسية لقوى التحرر الثوري والوطني في العالمين العربي والثالث بصفة عامة، أن تتحول بين عشية وضحاها إلى حاضنة رئيسية لنشوء الانقسامات الوطنية والقومية، ومؤشر بعث انهزامي للأفكار والقوى الماضوية التي شوهت إرثها وميراثها الثوري والوطني والحضاري بدرجة يصعب إصلاحها في المدى المنظور؟!
وكيف أمكن لحفنة من أدعياء الثورية تحويل أبرز قلاعنا الثورية، التي تمتد جذورها الحضارية إلى بدء ولادة التاريخ الإنساني، إلى أشبه ما تكون بـ"داعرة متبرجة" في حانة مكتظة بجنرالات الحرب المتشوقين للمتعة؟!
فلا عبودية أقسى وأسوأ من أن يسحل شخص ما ويقتل ويهجر، ويصبح نازحا في وطنه بجرم أنه دحباشي أو زيدي أو جنوبي أو شافعي... إلخ تلك الخزعبلات.
تلك هي العبودية التي عناها ذلك الرجل المسن في حديثه عن منجزات الأفندم هادي.

 الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات