تعز تبتهج بالبحر
 

محمد القيرعي

قبل حوالي أسبوعين كنت في زيارة خاصة لتعز الأبية والمكلومة لأجدها زاهية هذه المرة ومبتهجة على غير عادتها رغم ظروف الحرب والحصار. .
ولعل مبعث بهجتها كان حجم وطبيعة المتغيرات الهيكلية التي شهدتها المحافظة، لعل أبرزها تعيين محافظ ومدير أمن جديدين بالصورة التي كنا جميعاً نرجوها. 
وللحقيقة فمع تعيين السيد أمين البحر محافظاً لتعز بادر كتاب النفاق السياسي كعادتهم بالتساؤل مجدداً: متى ستسقط تعز يا ترى في براثن العدوان؟! وبما أن المشكلة الأساسية في هذا الشأن تكمن في أن الجدل الدائر حول تعز لا يزال قائماً بشراسة في الدهاليز الخلفية، وحتى قبل أن يكون البحر محافظاً لتعز، فإن الشيء الذي لم يدركه هؤلاء (الملبوقون) هو أن الزهو الذي تعيشه تعز حالياً مبعثه الأساس وجود السيد أمين البحر على رأس مقعدها التنفيذي الأول، والسبب الرئيسي يكمن في أن السيد البحر برز منذ اليوم الأول لاعتلائه مقعد السلطة التنفيذية في المحافظة كاختيار موفق لما يرغب ويفكر به الناس في المحافظة بشأن وجود مسؤول أعلى لا يخشى في الحقيقة مصافحة أيدي البسطاء خوفاً من عدوى الجراثيم التي يمكن أن تصيبه كعادة مسؤولينا الأوائل. 
وذلك بالنظر إلى الطبيعة الشعبوية التي كرسها منذ البداية من خلال نزوله اليومي على مستوى الميدان وتواجده المستمر في شوارع المدينة وفي مقاهيها وحتى في أسواقها وفي أحيائها الشعبية المختلفة بمعزل عن تلك المظاهر المترفة المشحونة بالغطرسة السلطوية ومجاميع المسلحين والأطقم العسكرية والصفارات الزائفة... الخ. 
إنه بسيط بساطة أبناء المحافظة المتعبة المكلومة، رغم ضراوة المشكلات التي يواجهها إذا ما نظرنا بموضوعية إلى أحجار العثرة الموضوعة في طريقه جراء المعوقات الناشئة والمحتملة في ظل تنامي مخاطر الحرب والعدوان المتوسعة، ونتائج الحصار المتسارعة، بما أفرزته من فوضى وانقسام سياسي ومجتمعي أخذ بالتجذر عميقاً ليس على مستوى تعز فحسب وإنما على امتداد المشهد الوطني ككل. 
وفي الحقيقة فإن الجهود التي قادها ويقودها المحافظ أمين البحر رغم الفترة القصيرة لوجوده في سدة السلطة التنفيذية بدأت تأخذ زخماً جدياً وواقعياً، لعل أبرزها تلك الخطوة المتمثلة في إعادة فتح حركة السير في الطرق السريعة والمغلقة الرابطة بين المناطق المحررة الواقعة تحت سلطته وتلك الواقعة تحت سلطة المرتزقة من أعوان العدوان وأذنابه ومليشياته المختلفة، بما أن الشيء الأكيد هو أننا لم نكن نتوقع منذ البداية من السيد أمين البحر المعجزات بصفته مسؤولاً عن تسيير شؤون واحدة من أكثر المحافظات عرضة واستهدافاً من قبل العدوان، بالنظر إلى عنف وضراوة المخاطر والتحديات الراهنة، وخصوصاً أمام جهود العدوان الرامية لتقويض أي تماسك سياسي ومجتمعي في المحافظة، إلا أن الشيء الأكيد هو أن الرجل، أي البحر، بدأ مهامه منذ البداية بهمة وعزيمة راسخة تمثلت في إعادة إحياء التراث التنموي في المحافظة، من خلال مباشرته إعادة إحياء الروح المجمدة والهامدة لجامعة تعز، التي استعادت عافيتها، من خلال مباشرته في إعداد وتجهيز ما تيسر من قاعات ومبانٍ ومعامل، وإن كانت مفرطة بالبساطة، إلا أنها تشكل انعكاساً وترجمة حية للعزيمة التي اتسم بها أداؤه، بالإضافة إلى تخصيصه مبنى مكوناً من عشرين شقة في مدينة الصالح كسجن مركزي مؤقت للمحافظة، في خطوة تعكس سعيه الشخصي والأكيد لإحياء سلطة القانون التي كانت قد بدأت في الأفول الفعلي جراء الفوضى الراهنة... الخ.
الأمر ذاته ينطبق أيضاً على بقية الهيئات والمؤسسات الخدمية والإنمائية في المحافظة. والشيء الأهم الذي لاحظته بقوة أثناء تواجدي هناك هو أنه وللمرة الأولى ربما اتسمت السياسات المالية والإيرادية في المحافظة بقدر ملحوظ من النزاهة والشفافية... الخ.
ومع أنه لا جدال هنا في أن الدمار الذي لحق ويلحق بتعز بصورة يومية وكارثية هو أمر مقصود تماماً ومخطط له منذ أعوام عدة مضت بغية تدمير الميراث الحضاري والتنويري الجبار الذي اتسمت به كخاصية متفردة كونها شكلت وعلى امتداد التاريخ الثوري الوطني الحاضنة الرئيسية لمجمل حركات التحرر الوطني في الشمال والجنوب، وشكلت على مدى قرن مضى على الأقل نقطة استقطاب رئيسية لقوى الثورة الوطنية سبتمبر وأكتوبر 62-63م وما قبلهما، بالإضافة إلى كونها حاملة مشعل التنوير الوطني المتقد منذ الأزل، والمحافظة التي تكاد تكون هي المتفردة حقا بإنتاج القادة والفلاسفة والمثقفين الثوريين بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم الأيديولوجية والفكرية... الخ، الأمر الذي يعكس اليوم تماماً مدى إصرار العدوان وأذنابه على محو تعز وإرثها من الذاكرة الحضارية والوطنية، وبالتالي فإن إفشال مثل تلك المشاريع الإلغائية بالنسبة لنا كتعزيين لن يتأتى إلا من خلال إحياء روح المقاومة والاستبسال الحضاري الخلاق والمثمر من خلال استنباط أشكال جديدة ومتقدمة من وسائل القتال والمقاومة عبر اعتماد مبدأ الثورة الاجتماعية المتواصلة الذي طبقه الرفيق القائد المعلم (فلاديمير اليتش لينين) إبان ثورة أكتوبر 1914م الظافرة في روسيا، وذلك سواء على المستوى العملياتي الميداني في ثكنات المواجهة، أو من ناحية تنظيم أواصر الصمود الاجتماعي في الداخل من خلال الحفاظ على أنماط الحياة الطبيعية اليومية للناس بتلك الصورة الحاصلة اليوم في تعز وفي ظل زعامة السيد أمين البحر والرجال الملتفين حوله في المكاتب والهيئات والميادين أسوة بإخوانهم المرابطين في ثكنات الصمود والمواجهة.
وأخيراً فإن ما أود إيضاحه أكثر يتمثل في حقيقة مهمة وراسخة تكمن في أن وجود سلطة وطنية في أوقات المحن والأزمات وبقدر ما يعد وجودها حافزا للوطنيين على شن كفاح مقاوم أشد بأسا وضراوة، بقدر ما يعد وجودها بمنزلة امتحان حقيقي لقياس مستوى الوطنية التي باتت تشكل اليوم بحد ذاتها معياراً حقيقياً لفرز الحقيقي من المزيف، خاصة مع ذلك التسابق المحموم لذوي النفوس الضعيفة لكسب ود قتلة أبنائنا ونسائنا وشيوخنا، من مهرجي الخليج وأعوانهم.
وبقدر ما ظلت تعز تشكل منارة حقيقية للعلم والوطنية والثقافة فإنها لقادرة اليوم في الحفاظ على إرثها عبر استلهام مآثر الرجال الذين يبذلون الغالي والنفيس عندما تستدعي الحاجة والمسؤولية.
التحية بأبلغ معانيها للبحر ورفاقه ممن قدموا درسا خلاقا في هذا السياق.
* عضو اللجنة الثورية العليا.

أترك تعليقاً

التعليقات