محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
ما من خطاب أو كلمة متلفزة لكم سيدي، بصفتكم القائد الأعلى لثورة الواحد والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2014 الظافرة، إلا وشددتم فيها ومن خلالها على ضرورة وأهمية الوفاء لدماء الشهداء الذين قدموا أرواحهم بسخاء الفاتحين الحقيقيين في معارك الذود المقدس عن حياض الوطن أمام جحافل العدوان الغازي البربري.
وأنت محق في ذلك تماما يا سيدي، لأنه وبدون قيامكم بتقديم الإجلال والإنصاف الوافي لهؤلاء الشهداء ولأسرهم وعوائلهم المكلومة فإن أي حديث عن نصر أو ظفر ثوري محتمل سيكون حديثا منقوصا وعبثيا ومفرغا من كل معانيه ومضامينه الأخلاقية والثورية، لأنه سيتجاوز دون شك مبدأ الإقرار الذمي والديني وحتى الأخلاقي أيضاً بدور وعظمة وتضحيات أصحاب الظفر الحقيقيين (الشهداء وعوائلهم)، والتي أقف أنا محمد القيرعي على رأس هذه العوائل المكلومة والمظلومة بصورة مزدوجة؛ إذ إنني وفي مقابل تقديمي لنجلي الشهيد عدنان محمد القيرعي (أبو نصر الله) وبطيب خاطر ليتصدر قائمة الشهداء الذين سقطوا من محيط الفئات المهمشة والمسحوقة: "أخدام اليمن"، في لوحة مشهدية تعكس عمق الروابط الكفاحية والطبقية التي تربطنا كمهمشين بثورة 21 أيلول، إلا أن الجحود والنكران حيال ابني كشهيد وحيالي كأب مكلوم، كان هو المحصلة التي حكمت ولا تزال تحكم سلوك ومواقف بعض القيادات المتوهمة أن الثورة محصورة فقط بشخوصهم هم دون غيرهم.
لقد أطلقت عليه الصحافة الوطنية لقب "جيفارا الأسود"، دون إدراك منها ربما أن استشهاده في خطوط المواجهة الأمامية لجبهة نهم بصنعاء صبيحة يوم الثالث عشر من ديسمبر العام 2017، سيتحول مع المدى إلى واحدة من أفظع صور وأدوات الظلم الممنهج التي تطالني كأب مفجوع، جراء حرماني غير المبرر ومنذ ما ينوف على الثلاثة أعوام من الحصول على مستحقات ولدي الشهيد، أسوة بغيري ممن فقدوا فلذات أكبادهم في معركتنا المصيرية للذود عن هذا الوطن المكلوم بماضيه وحاضره ومستقبله أيضاً.
فأنا الوحيد تقريبا من آباء الشهداء المجرد قسرا من قبل المعنيين في مؤسسة الشهداء بالعاصمة صنعاء من استلام حقوق ومستحقات ولده كشهيد، بصورة لا تتناقض فحسب مع أخلاقيات العملية الثورية التي ضحينا لأجل انتصارها، وإنما أيضاً مع توجيهاتكم وإرشاداتكم كقائد أعلى للثورة لم تغب يوما عن بالكم وعن خطبكم استعراض مآثر من ضحوا بأرواحهم في ميادين الشرف والكرامة.
فلماذا أنا بالذات أجرد من دماء ابني ومن حقوقه المستحقة؟! وهل للوني وهويتي العرقية -يا ترى- كـ"خادم" ضلع في هذا الظلم الحاصل الذي يطالني ويطال ابني في مهجعه الأبدي الذي يرقد فيه بمقبرة الروضة في منطقة بني الحارث والمخصصة له ولأمثاله من الشهداء والقديسين والنبلاء الراسخة ذكراهم في قلوبنا وفي ضمائرنا؟!
وهل أستحق -يا ترى- مثل هذا الاجحاف من قبل ثورة مازلت رغم مغادرتي إياها من أشد المؤمنين والمدافعين عن إرثها ودورها وحضورها الخلاق في حياتنا وفي محيطنا الاجتماعي والوطني؟! أم أن الأمر يندرج -يا ترى- في سياق الرغبة التأديبية لدى صناع القرار الثوري لأنني تجرأت يوما على مغادرة الثورة وصنعاء معا في ديسمبر 2018؟!
إن كان الأمر كذلك فإنني أقترح على سماحتكم توجيه هذا السؤال لمسؤولي أمن واستخبارات الحركة (حركة أنصار الله) الذين تعاملوا معي -منذ اللحظات الأولى لاكتسابي وشغلي عضوية اللجنة الثورية العليا- بوصفي ذراعا خفية للعدو ولست عضوا ثوريا حظيت وقبل كل شيء بثقتكم أنتم، ولتتبينوا أن السبب الأبرز والرئيس لمغادرتي صنعاء كان مبعثه الظلم والتنمر الذي عانيت منه جراء هذا التصنيف الأمني والاستخباراتي طوال فترة انتمائي وخدمتي المتفانية للعملية الثورية من قبل حفنة منحرفة اعتقدوا بشكل خاطئ أن الثورة حقا محصورا بهم دون غيرهم، وأن بقيتنا مجرد تابعين وخدم لتطلعاتهم الشللية الضيقة، ما دفعهم إلى استهدافي بشكل ممنهج ومتكرر منذ بداية مايو 2015، بصورة لا أعتقد أن أحداثها وتراجيديتها كانت خافية عليكم، والتي لا يكفي المجال هنا لسردها تفصيلا.
ولعل الأمر الذي أودك أن تدركه بجلاء يكمن في أنه ومنذ مغادرتي للعاصمة صنعاء في منتصف ديسمبر 2018، لم يسجل لي أي موقف مسيء أو مناهض أو خياني حيال ثورة 21 أيلول، بل على العكس من ذلك تماما، كون ولائي الراسخ للعملية الثورية والذي لا يزال قائما ومكرسا من خلال صوتي وقلمي وجوانحي أبقاني وعائلتي في مرمى الاستهداف اليومي والممنهج من قبل عملاء العدوان ومرتزقته (سلطة ومليشيات).
سماحة القائد الأعلى للثورة، كنت أحسد ابني على توقه وشغفه اللامتناهي للموت والاستشهاد في سبيل ثورة أيلول، أما اليوم فإن جل ما أخشاه هو أن تحين تلك اللحظة التي سيتعين عليَّ فيها مغادرة هذا العالم فيما قيود "الدونية العنصرية" لا تزال متدلية من عنقي بالطريقة ذاتها التي ظلت عليها منذ وعيت نفسي في هذا العالم الموبوء بالحقد والبغض والكراهية، فليس هنالك أسوأ من أن يولد المرء ويموت دون أن يتمكن من إدراك مصيره أو اكتساب ذاته وآدميته المستلبة على قاعدة الإلغاء الكلي للشخصية الإنسانية.
كما أن أسوأ أشكال الاستعباد البشري والإنساني تكمن في "العنصرية" التي تبرز مخالبها جلية في مواقف أولئك الذين يقررون بصورة انتهازية وإلغائية من هو الشهيد من عدمه.
سيدي، لا أصدق أن هذا يحدث في عهدكم، وفي عهد عملية ثورية نشبت أصلاً على قاعدة إنصاف المظلومين والمقصيين والمهمشين، ثورة اعتقدنا أنه سيكون لنا من خلالها كـ"مهمشين" حظ محتمل لاستعادة ولو جزء ضئيل من كرامتنا وآدميتنا وإنسانيتنا المستلبة.
ينبغي أن تكون على بينة -سيدي- في هذا المنحى، أن من يسيرون خلفك اليوم هم ولا شك أولئك الناس التواقون للانعتاق والمؤمنون بقضية الحرية، والذين وبقدر حاجتهم الروحية الملحة للاستزادة من إلهامك لهم، بقدر حاجتكم أنتم أيضاً سيدي للاستزادة من ولائهم وصلواتهم.
مثلما ينبغي أن تدرك أيضاً في هذا الصدد، لا كقائد ثوري فحسب، وإنما كأب وكمرشد روحي أيضا، أنه وقياسا بحجم الفوضى والدمار الذي خلفته هذه الحرب المضنية في حياتنا وحياة أبنائنا وبلدنا المعتدى عليه، فإن أي مسعى لنيل الاستحقاق المادي بالنسبة لأولئك الذين تصدروا مشهد التضحية الطوعية بذواتهم وبأمنهم وأروحهم، لا يمكن بأي حال النظر إليه بوصفه سلوكا أنانيا حيال وطن منهك بالعدوان والحصار، لأن الأنانية تكمن هنا فقط في وعي وسلوك أولئك الذين تغمرهم أوهام التفيد والاستحواذ، اللصوص لحقوق الغير باسم الثورة، كون استحقاقات من ضحوا ليست محصورة من حيث المبدأ في جانبها المادي فحسب، بقدر ما تعد حقا اعتباريا ومعنويا، لا يمنح السكينة فقط لأرواح من ضحوا، بقدر ما يمنح تضحياتهم السخية المعنى الحقيقي لمفهوم الانتماء الروحي الوثيق للأرض والثورة والوطن.


الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات