التربة..لم تعد «أورشليم» الحجرية!!
 

محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
تاريخياً، عُرفت مدينة التربة بوصفها باكورة السلام الاجتماعي لعموم منطقة الحُجَرية، التي تشغل حيزاً جغرافياً واسعاً يضم تسع مقاطعات إدارية (مديريات)، مثلما اتسمت أيضاً بإرثها الحضاري والثقافي الجبار، بوصفها مركز التنوير الوطني الأول في نطاق "مناطق اليمن الأسفل" ككل منذ ما قبل عصور الثورات الوطنية، ونقطة الاستقطاب الرئيسية للعديد من القوى والأفكار السياسية والأيديولوجية والثورية، عدا عن كونها المنطقة التي تفردت أيضا بإنتاج القادة والفلاسفة والمثقفين الثوريين الذين خرجوا من حواصلها تباعا.
والأهم من كل ذلك أنها وعلى امتداد تاريخها الوجودي كانت تشكل معيارا حقيقيا للتعايش الاجتماعي البناء بين مختلف الفئات والتكوينات الاجتماعية والطبقية والمذهبية والقومية والعرقية وحتى الدينية المختلفة أيضا، التي يتكون منها نسيجها الاجتماعي المتنوع، ما بين الطوائف المنحدرة من شمال الشمال (بني مزيد) إلى فئات الأحجور و"الأخدام" و"المزاينة"، وحتى اليهود أيضا الذين كانوا يشكلون وحتى أواخر العقد الرابع من القرن الفائت جزءا مهما من نسيجها الاجتماعي الذي تعايش في مجمله في ظاهرة نادرة وملفتة من الوئام الاجتماعي السلمي، لدرجة لم تشهد معها هذه المدينة خلال تاريخها الوجودي الطويل أي نوع من الصراعات أو الاحتقانات العصبية والإثنية والطبقية والمذهبية والقومية، باستثناء ظاهرة العنصرية فقط المستشرية والسائدة منذ الأزل ضد الفئات الاجتماعية الدنيا والمهمشة في سياق الثقافات والتقاليد المجتمعية السائدة والمكرسة على امتداد المشهد الوطني.
اليوم لم تعد "تربتنا" كسابق عهدها، بعد أن فقدت إلى جانب أمنها وسلامها الروحي أغلب خواصها وخصائصها التاريخية، منذ أن غزتها جموع العصابات الخونجية الملتحية بحناجرها الهادرة بصرخات الفتوحات وبفكرها الفاشي الازدرائي الموجه على شكل موجات لامتناهية من الاحتقار الغريزي للحياة الإنسانية التي يتمّ إقصاؤها اليوم بشكلٍ قاسٍ ووحشيّ وباسم الفضائل الوطنية والدينية.
اليوم "أورشليم الحُجَرية" تئن بيأس، باحثة عن سلامها المفقود، في محاولة لوقف نزيفها المتنامي ومداواة ندوبها المستفحلة تحت وطأة الجلد اليومي الذي يطالها في سياق حدود الردة المقامة عليها وعلى قاطنيها على السواء من قبل جموع المطاوعة الذين غزوها باسم الرب، مع أن الأمر المؤكد في هذا الصدد هو أنه لا يوجد ملحدون في التربة والمنطقة بأسرها، باستثنائهم هم فقط.
والغريب في الأمر أن هذه المدينة، التي ظلت عصية على أغلب أنظمة الحكم الاستبدادية المتعاقبة على البلاد منذ الغزو العثماني الأول، سرعان ما فقدت مناعتها، تحت تأثير البربرية الخونجية المتمددة منذ بدء النكبة الوطنية الحالية، بحيث بات كل ما ينبض فيها أو يرمز إليها ملوثا ومسكونا بالفوضى والفجور والانحطاط اللامتناهي.
فالثقافة، كما قال ذات مرة المنظر الإنجليزي تيري ايغلتون (Terry Eagleton): "إذا سيطرت عليها أيادٍ إجرامية مسيئة فإنها ستقضي على كل مظاهر التنوّع والاختلاف، لتتحوّل الثقافة بذلك إلى ظاهرة كارثية، شرّيرة وخطيرة ومدمّرة لعمليّة التمدّن ذاتها"، وهو الأمر الذي يمكن قياسه بوضوح من خلال الإمعان بموضوعية فاحصة في المدى الذي بلغته اليوم مستويات العنف الإجرامي المنظم الذي تنفذه بانتظام مليشيا الإخوان الحاكمة ومواليها ضد الجميع من خارج دائرتها الفقهية والحركية دون استثناء، لدرجة أن نمط الحياة اليومي والمشوه لمجتمع التربة والحجرية عموما بات يشكل نوعا من التكرار الأبدي للأشياء المألوفة ذاتها، والمتمثلة في أعمال القتل والموت والدمار والدم المنهمر والسلب والتقطع والاغتصابات والمصادرة المشاعية لأمن الناس وحقوقهم وأعراضهم وممتلكاتهم وآدميتهم وكرامتهم وإنسانيتهم المستباحة، حيث لا خلاف حول حقيقة أن كل جريمة وكل فعل إجرامي وعلى اختلاف أطرافه وضحاياه يحمل البصمة الخونجية الخالصة، كما يتضح من خلال قياس مستوى الشواغل الأيديولوجية لمرتكبي أغلب حالات القتل والسلب والنهب والاغتصابات المرتكبة ضد الإنسانية منذ بدء العدوان وهيمنة المطاوعة على مفاصل السلطة في المناطق والمديريات المكتوية بشرورهم.
ولعل ما يلفت الانتباه في آخر جريمة مرتكبة في المدينة، يوم الجمعة قبل الفائت، والتي استهدفت حياة مؤيد حميدي، رئيس مكتب برنامج الأغذية العالمي في تعز، أن الخونج باتوا قادرين على تطوير نمط تفكيرهم ووسائلهم الإجرامية بما يمكنهم من تحقيق أكثر من مكسب وبشكل مزدوج إن جاز التعبير، خصوصا وأن الأمر المثير للريبة بشأن الجريمة الأخيرة يكمن في أن الضحية ومنذ قدومه من عدن، الغارقة هي الأخرى في فوضى الجريمة والانفلات الأمني، بهدف التموضع الإداري في المدينة، كان يحظى بالحماية العلنية الرسمية من قبل سلطة الأمر الواقع الخونجية في المنطقة، حيث ظل محميا بصورة أمنية مشددة ويحظى بمرافقة مستمرة في كل تحركاته وعلى مدار الساعة وبأطقم عسكرية متعددة تابعة لما يسمى "قوات الأمن المركزي" التي يقودها سيئ الصيت الجنرال جميل عقلان، باستثناء صبيحة يوم الجريمة التي تبخرت فيها وبصورة مبهمة وغير مفهومة أطقم جميل عقلان العسكرية وكل أشكال الحماية المفروضة حول الرجل، الذي بدا وحيدا للغاية وهو يتلقى دفقات الرصاص المتوالية من بنادق قتلته على مرأى الناس.
هذا الأمر يوحي بوضوح بأن تلك الاستراحة الأمنية القصيرة والمفاجئة لأشاوسة جميل عقلان وسادته من جلاوزة الإصلاح كانت تهدف إلى إتاحة الفرصة للقتلة لإتمام مهمتهم "الوطنية" دون عوائق أو منغصات... إلخ.
في النهاية، الضحية الذي استلبت روحه على ما يبدو بمباركة الإصلاح، غادر جثمانه إلى وطنه الأردن، فيما شهدت التربة هي الأخرى مغادرة ما تبقى من سكينتها المحنطة والواهية في أنفس أبنائها المكلومة، بالنظر إلى الطريقة التي قرر فيها جلاوزة الإخوان استغلال تداعيات جريمتهم تلك بصورة هدفوا من خلالها إلى: أولا: تقمص شخصية القوى الراعية والمؤمنة والمطبقة للقانون والمكافحة للجريمة أيا كانت، ومن ناحية أخرى تحويل جريمتهم تلك إلى ذريعة لشن حملات تنكيل أمنية واسعة ومنظمة ضد بعض القوى والشخصيات الاجتماعية التي لا تتفق مع مجونهم الفقهي والتسلطي، كجزء من مخطط خونجي مدروس لصرف الانتباه عن هوية الأشخاص الضالعين في ارتكاب الجريمة من ناحية، ولتصفية حساباتهم الحركية والشخصية من ناحية أخرى مع هؤلاء، بادئين باستهداف أسرة الشهيد الشيخ أحمد سيف الشرجبي، عضو أول مجلس جمهوري تشكل في حكومة أيلول/ سبتمبر 1962 الثورية.
فقد قامت مليشيا الإصلاح، ودون مراعاة لأي اعتبارات أسرية وأخلاقية، بمداهمة منازل أبناء وأحفاد الشهيد الشرجبي، وترويع نسائهم وأطفالهم، في بادرة انتهاكية وعدوانية ولدت حالة من الرفض والاحتقان الشعبي والجماهيري العارمة، بالنظر إلى المكانة الاعتبارية العالية التي تتمتع بها أسرة الشهيد الشيخ أحمد سيف الشرجبي، الذين لم يلوث تاريخهم الأسري والمشيخي الطويل بأي فعل منافٍ لأمن البلاد والمجتمع، بالصورة التي قررها جلاوزة الإخوان حاليا ضاربين عرض الحائط بكل القيم والأعراف والتقاليد المجتمعية السائدة، وبما قد يؤسس لدق المسمار الأول في نعش هذه الجماعة الضالة والمارقة (جماعة الخونج)، وبما قد يعيد للمنطقة ألقها واعتبارها التاريخي بوصفها "أورشليم الحجرية".

* «أورشليم» بالعبرية، تعني: مدينة السلام.

أترك تعليقاً

التعليقات