محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
يوم الثلاثاء قبل الفائت حلت على البشرية أقدس المناسبات السنوية والمتمثلة بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يصادف الثاني عشر من ديسمبر من كل عام، وبما أنها الذكرى الأكثـر قدسية من منظوري لمشروع العدالة والمساواة الإنسانية اللتين قضيت ما ينوف على الأربعة عقود من حياتي في النضال في سبيلهما دون أن أنالهما أو أحظى بهما البتة، فإن ما يدمي فؤادي حقا من الداخل يكمن في كون هذه الذكرى قد حلت هذا العام ومثل العديد من مناسباتها السابقة، فيما أنا مكبل خلف قضبان الديكتاتوريات المتعاقبة.
فاحتفائيتي بهذه المناسبة في العامين 2011 و2013، تمت في جو مشوب بالخوف والحيرة والقلق والترقب مما هو آت وسط ظلمة الزنازين والأقبية الرطبة والمعتمة لجهازي البحث الجنائي والأمن السياسي على التوالي إبان الحقبة العفاشية البائدة، فيما لم أتوفق حتى في العثور على بقايا شمعة للابتهاج بذكراها العام 2015، والتي حلت فيما أنا أقبع أسيرا ومخفيا بشكل قسري في السراديب تحت الأرضية لـ«أثوار» ثورة أيلول 2014، في عاصمة السيادة الوطنية والثورية صنعاء، مخفيا حتى عن أبنائي وأفراد عائلتي من قبل حماة الثورة الذين اعتقدوا آنذاك أن الخطر الداهم المهدد لأيلول 2014، يكمن في شراكتها مع الفئات الدنيا والمستضعفة من خارج دائرة بني هاشم، وصولا إلى ديسمبر العام 2019، حيث تعين علي الاحتفاء بهذه المناسبة في دهاليز استخبارات عيدروس الزبيدي «الانتقالي» كمجرم حرب حوثي مسؤول عن مقتل عشرات الجنوبيين كما تكرموا بإبلاغي آنذاك، وانتهاء بذكراها الحالية التي لم يكن في مقدوري حتى تنسم عبيرها وسط عتمة السجن العسكري لاستخبارات المرتزقة، بالنظر إلى ضراوة الحصار الأمني الذي فرض علي داخل محبسي الضيق والمظلم إلى حد قيامهم بمنعي حتى من التطلع من شقوقه لأشعة الشمس التي لم أعد أذكر حتى لونها وتموجاتها التي فقدت بريقها بعد أن استبدلت بشمس الخونج المعتمة وبديكتاتوريتهم الدينية -المشيخية التي عمقت من شريعة الغاب، وباسم العدالة الإلهية ذاتها.. حيث لا قانون هنا سوى قانون القوة والجبروت الإخضاعي الممنهج (ببزات الميري المموهة) وبشعارات الوطنية المروجة من قبل سلطة تابعة وعميلة باتت فاقدة أبسط مقومات الشرعية التي تزعمها.
فأنا معتقل للمرة الألف بدءا من السادس من نوفمبر الفائت وحتى الرابع عشر من ديسمبر الحالي، وبذات التهم التقليدية المتمثلة بـ»التحوث» و»الحوثية» والتخابر الجنائي مع «جماعة انقلابية» والتآمر لتشكيل «خلايا حوثية نائمة»، مضافا إليها هذه المرة تهمتان وليدتان من خضم التصوف الخونجي الممقوت، وهما: الإلحاد الديني والزندقة عبر قيامي بحسب زعمهم بالتعبير عن معتقداتي الإلحادية علنا من خلال كتاباتي الصحفية ومحاضراتي السياسية المنبثقة أساسا كما قالوا عن إيماني بالرجس و»الوثنية الحوثية»، الأمر الذي يشكل من وجهة نظرهم تهديدا وخيما لقيم المجتمع وتقاليده الدينية، بالإضافة إلى تهمة القذف والتشهير والإساءة العمدية كما نبهوني مشكورين ضد من وصفوهم بمسؤولي دولتهم وبهيئاتها السيادية وبما يشكل تقويضا سافرا لشرعيتها التي فتشت عنها طويلا خلال السنوات الخمس الفائتة فلم أجدها إلا في خيالاتهم المريضة والعفنة والمشبعة بالعمالة والارتزاق والتبعية المهينة.
وبالطبع وكما جرت العادة ولكي يتم تجريمي بصورة مضبوطة ومتقنة فقد تعين على جلاوزة الاستخبارات العسكرية استقدام بعض القرابين الضرورية لتأكيد تلك التهم عبر قيامهم بشن حملة اعتقالات موسعة شملت عشرة من شبابنا «المهمشين»، والذين لا أعرف حتى اللحظة هوياتهم أو من أية قرى ومناطق جلبوهم، قياسا بمعرفتي بحجم الأذى الذي طالهم على يد مستجوبيهم على مدى أسابيع جراء التعذيب الموغل في الوحشية الذي مورس عليهم بغية إجبارهم على الاعتراف بنشاطهم التخريبي المزعوم بقيادتي.
علما أن مشروع التجريم السياسي ذاك انبثق فقط كرد فعل على رفضي التعاون معهم بشأن ثلاث من جرائم القتل المرتكبة خلال العامين الفائتين على يد شرطتهم العسكرية والأمنية وبطريقة الإعدام العلني ضد ثلاثة من أشاوس فئاتنا «المهمشة»، وجلهم قيادات ميدانية مؤثرة في حركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن التي اتشرف برئاسة هيئتها التنفيذية، بدءا بالشهيد شائف الشيباني ومرورا بالشهيد سعيد شكير، وانتهاء بالشهيد حمادي الصوملي، الذي استشهد صبيحة السادس من رمضان الفائت.
وذلك من خلال مقترحهم الانتهازي المعروض علي بشقيه في الأسبوع الأول من اعتقالي والمتمثل في شقه الأول بالكف عن تبني قضايا الضحايا على المستويين الحقوقي والقضائي والسعي لإقناع ورثائهم بالتنازل الطوعي والمجاني عن دماء أبنائهم، مصحوبا بقيامي بإصدار بيان صحفي أؤكد من خلاله شرعية مقتلهم كمجرمين محتملين على يد حماة العدالة من أشاوس الأمن والشرطة العسكرية، وفي شقه الآخر قيامي بعقد مؤتمر صحفي سيتكرمون هم بتنظيمه طبعا، أعلن من خلاله نبذي وتنكري لماضيّ «الحوثي» ولروابطي الحركية بجماعة أنصار الله وإدانتي العلنية لما وصفوها بنهجها الإجرامي ونهج قادتها ورموزها الأوائل، وعلى رأسهم سماحة القائد الأعلى السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، وهو المقترح «الرحيم والمرن جدا من منظورهم»، والذي رفضته أنا بشدة متذرعا بأن حقوق الضحايا في العدالة والإنصاف هو أمر يتماشى أولا وأخيرا مع فلسفتهم الدينية، فيما الموقف المطلوب من ثورة أيلول ورجالاتها أمر يتعارض بشدة مع مصالحنا الحركية معشر «المهمشين»، كون الفئات المعنية بنضالنا متواجدة ومنتشرة على امتداد المشهد الديموغرافي الوطني، الأمر الذي يفرض علينا الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع أطراف الصراع وعدم معاداة طرف لصالح طرف آخر.
وهو الرفض الذي أسفر بطبيعة الحال عن مباشرتهم بإعداد ذلك السيناريو التجريمي المشار إليه آنفا.. مصحوبا بجملة من الإجراءات التنكيلية التي استهدفتني في سجني منها قيام أحد ضباط الخونج المقرب من عبدالعزيز ردمان الشيباني، ويدعى محمد خالد -وهو بالمناسبة شقيق القيادي الخونجي وقائد ما يسمى لوائهم الخامس مشاة أمجد خالد- بالاعتداء علي مع مرافقيه داخل زنزانتي ضربا وركلا وعلى مرأى الجنود والسجناء ظهر يوم الثلاثاء 11 نوفمبر الفائت وبعد ساعات فقط على رفضي التعاطي بإيجابية مع مقترحهم آنف الذكر.
في النهاية ما من شك هنا في أن كل ما نعانيه من قمع وقتل وسحل وإذلال وملاحقات أمنية واعتقالات متوالية وتجويع منهجي، هو أمر ارتضيناه لأنفسنا بقناعة تامة وراسخة من خلال تمسكنا بمبادئنا الثورية ورفضنا أداء شعائر العمالة المطلوب منا أداؤها في بلاط العدوان ومرتزقته، لكن الأمر المؤسف هو أن أعامل هنا كمجرم حرب «حوثي»، في الوقت الذي أصنف فيه كمرتزق في الجانب الآخر (جانب أيلول 2014) الذين أنكروا علي ثوريتي رغم الولاء والتضحيات التي قدمتها بسخاء الفاتحين الحقيقيين في سبيل ثورة لم يعد في مقدورها حتى الاعتراف بتضحياتنا تلك من خلال حرماني حتى من استحصال مستحقات ولدي الشهيد عدنان محمد القيرعي (أبو نصر الله) والتي لم أعد أنالها لعدم استحقاقي لها جراء ارتباطي المزعوم بالعدوان ومرتزقته، كما نبهني بذلك مشكورا وعبر الهاتف مدير مؤسسة الشهداء بصنعاء المدعو جحاف جحاف أوائل العام الحالي.
في النهاية لا جدال هنا في أن خلفيتي العرقية كخادم جعلتني عاريا ومجردا على الدوام من أية حماية أو إسناد قبلي وعشائري على غرار الساسة البيض (القبائل)، وجل ما أخشاه في هذا الصدد هو أن يسهم هذا الواقع بطمس كل أثر لكفاحي الشاق والطويل في سبيل المساواة الاجتماعية والعدالة التي لم أنلها بالمطلق، وأن توصم خاتمتي بالحوثية والتخريب هنا، وبالارتزاق والعمالة هناك في نظر رفاق درب وثورة مفترضين أنكروا علي ثوريتي وآدميتي.

أترك تعليقاً

التعليقات