محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
يوم الجمعة، التاسع من فبراير، حلت أربعينية والدتي الراحلة رحمها الله والتي غشاها الموت في الساعات الأولى من اليوم الأخير للعام 2023، وكأنما المشيئة كانت بفعلتها تلك تترصدني كعادتها لتذيقني إحدى نكباتها المفاجئة والمضافة إلى قالمة مأساتي التي لا تنتهي.
لقد حرمت والدتي من رؤية شمس العام الميلادي الجديد 2024، والتي هلت علينا كعادتها ملبدة بغيوم شمس حزب الإصلاح المعتمة وبشرور العدوان الخليجي -الصهيوإمبريالي متعدد الجنسيات، مثلما حرمت أنا بوصفي نجلها الأكبر من مواراة جثمانها الثرى بأمان وحرية أو حتى توسيد بدنها المتراخي في لحدها كعادة الأبناء البررة.. رغم أنني كنت أكثر أبنائها براً بها، وذلك بسبب عقوقي المزمن لمرتزقة العدوان من جهابذة الخونج وأعوانهم، والذي جعلني طريدة دائمة لمليشياتهم المبندقة ولأجهزة أمنهم واستخباراتهم المتعطشة للدم والرذيلة، ما أبقاني على الدوام شريدا وهدفا لمطاردة محمومة بدأت عقب إطلاقهم الأخير لسراحي في منتصف ديسمبر الفائت بأيام قلائل فقط، لكنها كانت كافية نوعا ما لتمكيني من زيارة والدتي العليلة آنذاك وللحظات عابرة ومتقطعة ومسروقة في كل مرة، ولتصبح تلك اللحظات ذاتها ماثلة في ذاكرتي المتآكلة والملتاعة بوصفها الوداع الأخير لها والذي ما كنت أتمنى أن يأتي على تلك الشاكلة، لولا أنها ارتبطت بمشيئة الخونج منذ أن باتت مسألة الظفر والتنكيل بي، خلال الشهرين الماضيين وحتى اللحظة، تتربع قائمة الاهتمامات اليومية لمرتزقتهم وأجهزتهم القمعية والاستخباراتية المختلفة.
لقد بكى الإسكندر المقدوني كثيراً حين تربع على عرش بابل، لأنه لم يحظ بشاعر كبير يخلد ذكراه وأمجاده.. بالشكل الذي حظي به «أخيل» في حرب طروادة حينما خلده هوميروس بقصيدة الإلياذة، أما أنا فلقد بكيت بحرقة أشد ولأيام عدة، لعجزي عن منح والدتي خاصية الخلود التي تستحقها في لحظات وداعها الأخير، بعد عمر عاشته كمهمشة كان في الواقع أشبه بالمأساة في كنف وطن مدنس بأحط أشكال الخطيئة وأكثرها وضاعة وابتذالا.
كانت رحمها الله في منتصف العقد السابع من عمرها، ولم تكن بالشيخوخة ذاتها التي بلغها الوطن اليوم، ومع هذا فإنني أتساءل: ما الذي كان سيتغير يا ترى في حياتنا وحياتها لو أن مشروع العدالة الإنسانية خاصتنا كان قد انتصر فعلا قبل رحيلها؟!
أعلم أن مجيء الموت ليس صعبا.. بقدر الصعوبة ذاتها التي تكتنف مغادرة المرء بمعيته -أي الموت- فيما لاتزال أغلال الدونية العنصرية المقيتة متدلية من أعناقه، ولعلي لا أزال أذكر بمرارة ذلك الشحوب الذي كان يكسو وجهها الملائكي كلما تناهى إلى علمها خبر عن اعتقالي أو محاولة اغتيالي أو الاعتداء علي أو تغييبي في أحد السجون والأقبية الاستخباراتية في مختلف الحقب الديكتاتورية التي عاصرناها، الأمر الذي كان يدفعها -رحمها الله- إلى تعنيفي باستمرار وفي كل مرة أنجو فيها، بسبب تطلعاتي السياسية والتحررية التي شكلت من وجهة نظرها تمرّدا مرفوضا من قبلي على القيم الاجتماعية وحتى العائلية أيضا.
وكانت متدينة أيضا إلى حد أن ماركسيتي كانت تعد من منظورها أحد مصادر الشؤم والتندر المجتمعي كونها «الخادمة» التي تفردت بإنجاب ثائر أسود يذكرهم كمجتمع بربري بناموس الخطيئة التي تكتنف إرثهم وتاريخهم وفكرهم ومعتقداتهم الدينية والأخلاقية الممقوتة والمشوهة... إلخ، وهذا ربما ما كان يدفعها إلى محاولة تلقيني وبحماس شديد أصول البرع «المخدماني» الذي لم أتقن فنه بالمطلق رغم أنه كان سيمنحني المناعة المطلوبة من وجهة نظرها للكف عن امتهان العمل السياسي والتفرغ لخدمة القبائل اتقاء لشرهم على الأقل.
ومع هذا لم أكن أتمنى يوما فراقها، رغم أنني بت أحسدها حاليا كونها حظيت على الأقل، وهذا ما أشعر به في قرارة نفسي، بالهدوء والسكينة في أحضان الطبيعة، عوضا عن غسق المساء اللامتناهي الذي يظلل بقسوة وتوحش حياتنا نحن الأحياء، ولكم كنت أتمنى لو أمكنني تشييد نصب تذكاري على قبرها وأخط عليه عبارة «إنني مازلت أكافح في سبيل معتقداتي التحررية»، ولأخبرها أنني أنتظر بفارغِ الصَّبر رؤيتها مجددا حتى ولو في أحلامي لتعظني مجددا من عالمها الخفي حول ما الذي ينبغي علي فعله في دنيانا المدنسة من منطلق إيماني ربما في أن الموتى الذين نحبهم لا يغادرون البتة جوانحنا، ولأخبرها أيضا عن استمرار اختفاء أسراب الطُّيور المُغَرِّدة من سمائنا التي باتت مظللة كل يوم بأسراب الطائرات المحلقة والصواريخ الحربية المعادية التي تدك دون هوادة كل مظاهر الحياة الإنسانية من حولنا، وبأن أطفالنا لايزالون يلعبون في أعيادهم المنسية وفي أوقات فراغهم لعبة الحرب المميتة بعد أن فقدوا كل معاني السلام والتحضر الإنساني المفقود.
وحتى يحين موعد لقائي المنشود معها في أي من العالمين (الأول والآخر) ما علي سوى تذكيرها بين الحين والآخر بأن الحياة لم تكن عادلة معنا في الدنيا، لكننا نأمل أن تكون عادلة في الآخرة!

أترك تعليقاً

التعليقات