محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
كان لصدوح جوقة النشيد الوطني «الإسرائيلي» التي عزفتها باقتدار فرقة الشرف (الموسيقى العسكرية) البحرينية أثرها البالغ في تأجيج مشاعر السيد  «نفتالي بينيت بن خليفة» لدى استقباله المبهج صباح يوم الاثنين الفائت 14 شباط/ فبراير الجاري في قصر ولي عهد مملكة البحرين «مترامية الأطراف»، والتي وصفها بينيت بأنها «اللحظة الأكثر إثارة لعواطفه الجياشة.
ومسألة كتلك تعد بديهية للغاية، ليس فحسب لكونها المرة الأولى على الإطلاق في تاريخ هذا الكيان الشاذ والدخيل «إسرائيل» التي يصدح فيها نشيده الوطني بالقرب من ديارنا المقدسة، وإنما لكون الشتات اليهودي قد التأم بشكل فعلي وبات واقعاً وراسخاً اليوم من خلال التمتين الحاصل لأواصر التآخي القائمة ما بين اليهود التقليديين (شعب الله المختار في «إسرائيل») وبين يهود الدونمة المتناثرين في أنظمة ودويلات الخليج المشيخية(1).
طبعاً، من حق السيد بينيت أن يبتهج بتلك الصورة التي بدا عليها بين إخوانه وأشقائه من بني خليفة، ومن حق مشاعره الشخصية والقومية أيضاً أن تتأجج بتلك الصورة غير المسبوقة، علها تمحو أو تخفف -على الأقل- وطأة الانكسار السياسي والمعنوي والأخلاقي التي مني بها وكيانه الغاصب الأسبوع قبل الفائت على يد الأفارقة على ضوء رفض زعماء الاتحاد الأفريقي بالإجماع خلال قمتهم الأخيرة التي انعقدت في إثيوبيا الموافقة على منح «إسرائيل» صفة العضو المراقب في قوام الاتحاد القاري، وفي موقف رفضي أخلاقي تبنته وتزعمته بقوة دولة جنوب أفريقيا، تلك الدولة المتسامية والمختلطة عرقياً ودينياً، من منطلق تمسكها الثابت والمبدئي بأهم المبادئ المؤسسية للاتحاد الأفريقي، والمتمثل بعدم منح أي صفة تمثيلية أو شراكة فعلية من أي نوع ضمن الهياكل الاتحادية مع أي دولة تحتل أراضي الغير بالقوة، وهو الوضع المنطبق بجلاء على الشقيقة «أورشليم» من وجهة النظر الجنوب أفريقية وأغلب شعوب العالم، باستثناء أمريكا ودويلات الخليج بالطبع.
قد يكون من البديهي من وجهة نظر البعض أن تتزعم مثل هذا الموقف الرفضي والمناوئ ببسالة لمحاولات «إسرائيل» تعزيز حضورها على الصعيد القاري الأفريقي دولة مثل جنوب أفريقيا التي سطرت أروع ملاحم الكفاح الثوري التحرري ضد العبودية والاستبداد، مثلما تسطر حالياً أنصع وأرقى صور التعايش السلمي المشترك والمتكافئ بين أعراقها وطوائفها ومكوناتها الطبقية المختلفة.
إلا أن المفارقة اللافتة هنا تكمن ليس فحسب في كون مثل هذا الموقف المؤازر لكفاح الشعب الفلسطيني المقاوم قد صدر أساساً عن دولة، وإن كانت لا تشاركنا من ناحية أولى قيمنا ومعتقداتنا الثقافية والدينية، وإنما لكونه صدر في الأساس عن دولة كانت وإلى عهد قريب جداً، أي إلى ما قبل أقل من ثلاثة عقود زمنية تحديداً، تتشارك مع «إسرائيل» التصنيف النبذي التجريمي نفسه على الصعيد الإنساني العالمي، بوصفها دولة عنصرية بامتياز إبان حقبة الأبارتهايد (نظام الفصل العنصري البائد) الذي لفظته وإلى الأبد في العام 1994، وذلك مقارنة بالمواقف والسياسات التآمرية المعلنة والمتبعة -سراً وعلانية- من قبل إخوة الدين والعقيدة والمصير المشترك من ملوك وأمراء ومهرجي الدويلات الخليجية الذين غرسوا مخالبهم عميقاً في قلب وبدن القضية الفلسطينية مضيفين إلى تخمتهم التقليدية تخمتي العمالة والخيانة، خيانة الرب وخيانة العقيدة وخيانة شعوبهم وشعوب الأمتين العربية والإسلامية على السواء، من خلال تجنيدهم لكل طاقاتهم وإمكانيات دويلاتهم للتآمر العلني والمفتوح مع العدو للنيل من أمن وكرامة واستقرار وتطلعات شعوب المنطقة واستقلالها القومي والوطني.
هذا الأمر لم يعد خافياً على أحد، وإن كانت له مميزاته الإيجابية في هذا المنحى على صعيد أحرار المنطقة العربية والإسلامية المنضوين في المحور المقاوم، من منطلق أن العدو بات معروفا بدقة على أشكاله وبتمدداته وتنوع أطرافه وأدواته، مثلما لم يعد مقتصراً، أي المشروع الخياني والتطبيعي، على دويلتي البحرين والإمارات فقط، بقدر ما بات يشمل حتى مملكة بني سعود، وإن بطرق وأشكال مبطنة وغير معلنة إن جاز التعبير، وبالصورة التي يمكن استشرافها بوضوح من خلال الربط الموضوعي الفاحص ما بين طبيعة ونوعية الترتيبات العسكرية والاستراتيجية والأمنية التي تمخضت عنها زيارة رئيس الحكومة «الإسرائيلية» للمنامة، والتي وصفها السيد بينيت نفسه بالاستراتيجية والمثمرة والمهمة جداً على صعيد تعزيز وتوسيع شراكة كيانه مع دويلات المنطقة لضمان وحماية الأمن القومي المشترك لجميع أطرافه في سياق معركتهم الحاسمة والمشتركة في مواجهة الإرهاب وعملائه، والمقصود هنا بالطبع إيران ومحور المقاومة إجمالاً.
وما بين أهداف ودوافع الحملة الدعائية التحريضية المسعورة والموسعة التي شنها النظام السعودي ضد حزب الله بالتزامن مع زيارة شقيقهم السيد بينيت للمنامة من خلال وصف الحزب بأنه يشكل التهديد الأبرز والأكبر على الأمن القومي العربي ككل، بحسب ما جاء على لسان سفير مملكة الرذيلة في لبنان، في إشارة تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على الضلوع الوظيفي الراسخ للنظام الملكي السعودي ليس فقط في الدفع بتوسيع نطاق التطبيع والتحالف الاستراتيجي العربي شرقاً وغرباً مع الكيان الصهيوني لفرض وإيجاد معادلات ردعية جديدة في مواجهة المحور المقاوم، وإنما لتعبيد الطريق أيضاً عبر تهيئة الظروف الملائمة لتحرير العلاقة والتحالف السعودي ـ «الإسرائيلي» المبطن من عباءته السرية ومنحها طابعها العلني، اعتماداً على ما تؤمنه لها إمكانياتها المادية الهائلة من قدرات دعائية ولوجستية في إيقاظ وتوظيف مكامن ومشاعر الكراهية والانقسام الطائفي والمذهبي على صعيد الأمتين العربية والإسلامية بغية شرعنة هذا المسار الانبطاحي التآمري التطبيعي المفتوح وجعله واقعاً للارتكاز عليه في مواجهة دول وشعوب المحور المقاوم سعياً لإخضاعها. 
وتبقى المشكلة هنا قائمة ومتمحورة حول عدم قدرة ملوك وأمراء ومهرجي الخليج على التعلم والاستفادة من أخطائهم وتجاربهم السابقة، وإدراك حقيقة أنهم كلما أوغلوا في غيهم وعبثهم وتآمرهم على أمن وسيادة واستقرار الأمتين العربية والإسلامية، كثر كارهوهم ومناوئوهم، وما النشوء المتوالي للقوى والحركات المناوئة لمشاريعهم الانبطاحية على امتداد المنطقة، على غرار الانبعاث المفاجئ لكتائب «الوعد الحق» العراقية إلا دليل حي وعملي على أن المحور المقاوم ليس بالصيغة الجامدة والمحددة الملامح، بقدر ما هو بذرة خصبة قابلة للتوالد والتكاثر والتمدد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً دون أن يحد من اندفاعته شيء.

هامش:
(1) يهود الدونمة هم إحدى القوميات التركية التي عاصرت الحقبة العثمانية، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء انهيار دولة الخلافة العثمانية عبر استخدامهم الحيلة والخداع والتآمر، حيث بادروا في حقبة السلطان عبدالحميد -على ما أظن- بإعلان إسلامهم فيما احتفظوا بيهوديتهم سراً، ما أتاح لهم الانخراط بشكل فعال ومؤثر في مفاصل الدولة العثمانية والعمل على تفكيكها من الداخل، وهو الوضع ذاته المنطبق في هذا السياق على اليهودية المبطنة لأمراء الدويلات الخليجية.

أترك تعليقاً

التعليقات