محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
كنت شخصياً من أشد المعجبين والمؤيدين للسياسات والتوجهات العامة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى الخامس والعشرين من شباط/ فبراير الفائت، حينما دفعه طيشه وغروره إلى الوقوع بكل بساطة في الفخ الأمريكي الغربي عموماً، عبر اجتياحه العسكري لأراضي جارته الغربية والضعيفة نوعاً ما أوكرانيا، محققاً بذلك التطلعات التي سعت حثيثاً لتحقيقها الإمبريالية الأمريكية والغربية، والمتمثلة في عزل روسيا العائدة بقوة إلى المسرح الدولي، وحصارها اقتصادياً وسياسياً ومالياً، وإغراقها في دوامة لا تنتهي من الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة داخلياً وخارجياً، بدرجة سيكون من شأنها بالتأكيد إعاقة روسيا مستقبلاً عن المضي قُدماً في إثبات ذاتها واستعادة حضورها وتأثيرها المنتظر طويلاً على المشهد الدولي.
فالغزو العسكري الروسي لأوكرانيا لم يكن مبرراً من الناحية الموضوعية، على افتراض أن حدة ونوعية المخاطر المحتملة على الأمن القومي الروسي والناجمة عن سياسات التبعية للغرب التي انتهجها الرئيس الأوكراني (زيلنسكي) لم تكن قد بلغت بعد حداً من الخطورة يستدعى بالفعل تحركاً عسكرياً روسياً عاجلاً بالصورة التي حدثت، خاصة إذا وضعنا بعين الاعتبار أن الطلبات الأوكرانية للانخراط في حلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي لم يكن قد تم القبول بها، أو عوملت حتى بجدية من قبل واضعي سياسات «الناتو» والاتحاد الأوروبي عموماً، والتي ما كانت لتتحقق فعلياً لو قدر لها ذلك قبل مضي سنوات طويلة وربما عقود من التهيئة التكاملية المطلوبة أوروبياً على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية كشرط مسبق يتعين على طالبي الانخراط الجدد في عضويتها تحقيقه.
كما أن أمريكا، ومن ورائها أوروبا وحلفائهما في شتى أصقاع العالم، ليسوا معنيين أساساً بحماية أوكرانيا والدفاع عن شعبها المظلوم وفق أجندتهم السياسية المعلنة، بقدر ما هم مهوسوون بدرجة رئيسية بالعمل، ومن خلال الأزمة الأوكرانية الروسية الراهنة، على تقزيم الدور والحضور والتأثير الروسي المتنامي بقوة خلال العقد الفائت على الأقل على صعيد المشهد الدولي، والذي كان له تأثيره الفعال خلال السنوات الفائتة في الحد من مدى وتأثير العديد من المشروعات التآمرية والإخضاعية التي شنتها الإمبريالية الأمريكية والغربية عموماً في العديد من مناطق الصراع الملتهبة في العالم، بدءاً من كوريا في أحراش قارة آسيا، إلى فنزويلا في أمريكا اللاتينية، إلى «الشرق الأوسط» بالنظر إلى السياسات الروسية المساندة للتطلعات القومية لكلّ من إيران وسورية.
وإذا أضفنا إليها إنجازات الرئيس بوتين المتلاحقة على صعيد السياسة الدولية خلال العقد الماضي، والمتمثلة من ناحية أولى في نجاحه الملفت بإحداث فجوة حقيقية في بنية النظام الأحادي الدولي التسلطي الذي تهيمن عليه أمريكا، من خلال مساهمته، أو لنقل تبنيه إنشاء العديد من التكتلات السياسية والاقتصادية والأمنية الموازية للتكتلات الأمريكية والغربية، والهادفة بدرجة رئيسية إلى الحد من هيمنة القطب الأمريكي الأوحد على مصائر وتوجهات ومستقبل الشعوب النائية الأضعف في شتى أصقاع المعمورة؛ على غرار تكتل «البريكس» الذي يضم في عضويته إلى جانب روسيا بعض أقوى وأهم اقتصادات آسيا وأمريكا الجنوبية كالصين والهند والبرازيل، بالإضافة أيضاً إلى منظمة «شنغهاي للتعاون الإقليمي» والتي تضم أيضاً إلى جانب الهند والصين جمهورية إيران الإسلامية.
والأهم كان نجاحه من ناحية أخرى خلال السنوات الفائتة في إحداث صدع فعلي في بنيان حلف «الناتو» العسكري، من خلال استمالته لعضو الحلف (تركيا) الممتعض من بعض المواقف والسياسات الأمريكية والغربية فيما يخص قضايا الأكراد والأرمن، والدخول معه في عدد من الشراكات السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية عبر تزويده للأتراك بمنظومة الدفاع الصاروخي المتطورة (إس 300)، الأمر الذي يعد خرقاً مرفوضاً من قبل الغرب لخصوصية دول الحلف الاحتكارية فيما يتعلق بالمسائل التقنية والعسكرية.
الآن أعتقد جازماً أن كل تلك الإنجازات التي حققها السيد بوتين خلال الأعوام الفائتة، والتي مكنت بلاده من استعادة حضورها الفاعل والمؤثر في المشهد الدولي، باتت مرشحة للتبدد الفعلي على ضوء الأحداث الراهنة.
فأمريكا والغرب لم يكن هدفهم متمحوراً منذ البداية كما أشرنا حول تلك القيم المثلى التي يزعمونها، والمتمثلة في الدفاع عن الأوكرانيين وتأمين سبل الدعم والإسناد الحربي والإنساني لهم؛ لأنهم لو كانوا كذلك، لكانوا بادروا على الأقل وفي مراحل سابقة على نشوب الحرب بإمداد الأوكرانيين بكل ما يحتاجون إليه من أموال وأسلحة ومنظومات دفاعية وعتاد كافٍ لضمان صمودهم أمام جحافل الجيش الروسي وقوميي إقليم دونباس الانفصاليين، الأمر الذي يوضح بجلاء حقيقة الأهداف والنوايا الأمريكية والغربية عموماً، والمتمثلة أساساً في توظيف عوامل الخلاف الروسي الأوكراني (القديم ـ المتجدد) بغية جر السيد بوتين إلى مستنقع المواجهة العسكرية مع جارته، ثم إغراقه في حرب استنزاف طويلة الأمد، واستخدام الحرب ذاتها كذريعة رئيسية لشن أوسع حملة عقوبات سياسية واقتصادية لن تنتهي بالتأكيد بانتهاء مبررها الرئيس، أي الحرب، خصوصاً إذا وضعنا بعين الاعتبار أن حملة العقوبات الجماعية الدولية الموجهة والمتوالية حالياً ضد الروس شملت أو طالت مجمل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والمعيشية والصناعية الإنتاجية والتنموية بدرجة لم تسلم منها حتى الجوانب الرياضية والثقافية أيضاً، وبما من شأنه -وهذا مؤكد لا محالة- إحداث ضرر بالغ يستحيل تلافي آثاره ونتائجه على المدى الزمني الطويل في بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتنموي، سيدخل المجتمع الروسي في دوامة من الأزمات الداخلية المتلاحقة والمنبثقة عن حالة العزلة والمقاطعة الدولية الواسعة بدرجة ستجعل من إمكانية العودة الروسية الفاعلة والمؤثرة في المشهد الدولي أمراً مستبعداً في المدى القريب، فيما ستتفرغ أمريكا وحلفاؤها الغربيون من جهتهم لمواجهة التنين الصيني المتعملق هو الآخر بطريقة مثيرة لقلقهم وهواجسهم، بغية تقليم أظافره بطريقة أو بأخرى، ومسائل كتلك ليست مستعصية على العقلية التآمرية الغربية.
فها هي روسيا بوتين على وشك خسارة أهم حلفائها في أمريكا اللاتينية (فنزويلا) التي لم تستطع مقاومة إغراءات الغزل الأمريكي من أول إيماءة صدرت عن اليانكي، فيما يمكن شراء مواقف العديد من الدول بأبخس الأثمان، على غرار السعودية والإمارات اللتين غيرتا موقفيهما بزاوية مائة درجة حيال روسيا والعقوبات، في مقابل قرار أعادت إدارة بايدن إحياءه من جديد، والمتمثل بإدراج «الحوثيين» ضمن قائمة «الإرهاب الأمريكية»، على الرغم من عدم أهمية القرار من منظور «الحوثيين» واليمنيين عموماً؛ كون «الحوثيين» مدرجين أصلاً وعلى امتداد تاريخهم الحركي ليس فحسب ضمن قوائم التصنيف النوعي الأمريكي، وإنما أيضاً ضمن دائرة الاستهداف الوجودي الكلي.
إذن، وعلى ضوء هذا الواقع، فعلامَ يراهن السيد بوتين يا ترى؟! على صمود نظامه أمام موجة الاستهداف الغربي المسعورة تلك والتي لن تنتهي بالتأكيد أو تتوقف بتوقف لعلعة البنادق؟!

أترك تعليقاً

التعليقات