محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
في الـ19 من تموز/ يوليو 2001، بادرنا بإعلان قيام حركتنا المدنية الحقوقية السوداء "حركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن" من على صفحات صحيفة الحزب المركزية: "الثوري"، بوصفها أول حركة حقوقية تنشأ من وسط فئتنا المهمشة: "أخدام اليمن"، وتعنى بتبني قضاياهم والدفاع عنها وحماية حياة أفرادها المحرومين من الحرية ومن الحقوق الأساسية الإنسانية ومن أبسط حقوق المواطنة العادلة والمتساوية.
كنا مفرطين في تفاؤلنا آنذاك، من منطلق اعتقادنا بأن المناخ السياسي في البلاد بات ملائماً لخطوة كتلك، على ضوء معطيات النضال السياسي التجريبية المتراكمة لقوى المعارضة التي بدأت بتشكيل تحالفاتها الخاصة العريضة والجامعة لقوى اليسار والوسط واليمين الديني في إطار ما عرف بـ"تكتل اللقاء المشترك"، الناشئ آنذاك مقابل الانحسار الحاصل في حجم التكتلات السياسية والحركية الموالية لنظام صالح الدكتاتوري وتحولها لصالح مناوئيه في المعارضة.
بدا يقيننا راسخاً بأن نشوء هذا "المشترك" قد يكون ناجماً بطبيعة الحال عن صحوة وعن صيرورة نضج سياسي حقيقي لدى قادة المشترك تتغذى من تجاربهم السابقة العقيمة، ومن درجة استيعابهم لأهمية توسيع نطاق حركة الكفاح السياسي والجماهيري الشعبي دفاعاً عن الحقوق السياسية والمدنية والإنسانية التي بدأت بالانحسار بشكل مقلق ومخيف بعد حرب صيف 1994، وأنهم باتوا مدركين لأهمية الخروج من قواقعهم الحزبية الحصينة، والمباشرة بإعداد المسرح لنشوء حركة جماهيرية سياسية واسعة ومؤثرة وقادرة على إعادة الزخم الفعلي للعملية السياسية المشلولة في البلاد.
وبالطبع، فقد هللت بعض قوى المعارضة من داخل "المشترك" وخارجه، وخصوصاً ذوي الاتجاه اليساري، كالاشتراكيين والقوى الشعبية والتجمع الوحدوي اليمني (عمر الجاوي)، مرحّبين بنشوء هذه الحركة المدنية الحقوقية السوداء، وفتحوا لنا صحفهم الحزبية لتسويق قضايانا، وتحديداً صحيفتي "الثوري" و"الشورى"، اللتين أبدتا نوعاً من الالتزام الأخلاقي الثابت بإسناد مشروعنا الكفاحي كمهمشين؛ لكنه كان التزاماً تعزوه بطبيعة الحال الرغبة الجادة لدى القيادات الحزبية ذاتها بترجمة هذا الطموح التحرري لفئة اجتماعية مسحوقة بصورة عملية وبناءة ضمن أهدافها وبرامجها الحزبية وتكتيكاتها النضالية.
هذا الأمر عكس بجلاء رغبتهم باستغلال موضوع المهمّشين للإضرار بسمعة نظام "صالح" فقط، من باب تصفية حساباتهم السياسية معه؛ ولكن دون تقديم أية مبادرات سياسية أو تشريعية من شأنها الإقرار الوطني الجمعي بوجود المعضلة العنصرية ووجوب مجابهتها عبر إيجاد جملة من القوانين والتصورات الوطنية لحل إشكالاتها التاريخية المتراكمة والمعقدة، وبالصورة التي جرّدتنا كـ"طلائع سود" منذ بداياتنا الأولى من القدرة على الدفع بنضالنا إلى مستويات طبقية أكثر فاعلية بالصورة التي كنا نأملها.
إن كل ما أملناه في هذا المنحى هو وجود قوة حزبية وحركية مبدئية ومنظمة ومؤهلة لإسناد -وحتى لقيادة- تطلعاتنا التحررية بصورة مباشرة، من منطلق إدراكها الواعي لأهمية هذا النضال الذي نخوضه نحن في إطار منظومة العمل الوطني ككل، وليس كفئة طبقية مجزأة. فمن منظوري الشخصي كعقائدي ماركسي ومبشر ثوري بعلم الاجتماع السياسي والاقتصادي فإني كنت وما أزال على يقين راسخ بأن نضالنا كمهمّشين سيعتمد أولاً وأخيراً على مستوى معين من النضج الحاصل في وعينا الطبقي كمهمّشين، والذي ينبغي ألا ينشأ بمعزل عن باقي القوى الاجتماعية الأخرى التواقة للحرية والانعتاق من حولنا.
لأنه، ووفقا لما ورد في البيان الشيوعي، فإن "الفئات الاجتماعية الدنيا والمحتقرة وفي أي مجتمع كان لا يمكنها أن تنهض وتنتصب بدون أن تنسف البنية الفوقية كلها للفئات التي تؤلف المجتمع الفوقي الرسمي"، الأمر الذي كنا على ضوئه مفتونين بفكرة النضال الوطني الجمعي، خصوصاً بعد أن أسهمت دكتاتورية عفاش وانسداد أفق العملية السياسية والمدنية في البلاد واستفحال موجات الصراع الأهلي والمذهبي بدرجة ملحوظة في تأمين الظروف الملائمة للدفع بصيرورة النضال الاجتماعي الوطني لبلوغ مرحلة النضج الفعلي، موفرة بذلك الظروف المادية المواتية لثورة اجتماعية وثّابة ومسنودة بقوة وعي الجماهير الشعبية؛ لولا أن هذا الحماس الثوري الجماهيري اصطدم -بالنسبة لنا كمهمّشين ولغيرنا أيضاً وككل مرة- بعقبة رئيسية تمثلت في غياب الأداة الحركية القائدة والمنظمة لنضالاتها الشعبية، والمقصود هنا "تكتل أحزاب المعارضة"، التي ظل أقطابها وجلاوزتها مقيدين في مأزقهم التاريخي نفسه، المتمثل في مركزة النضال الحزبي وشخصنته، بعيداً عن القوى الجماهيرية الفعالة، مقدّمين بذلك -وما زالوا- أسوأ الصور الصعبة لتجربة النضالات الوطنية المجزأة، والتي لا تزال حتى اللحظة تشكل أسوأ كوابيسنا وأحجار العثرة الرئيسية أمام إمكانية بناء وطن آمن وموحد ومستقر تسوده قيم الإخاء والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
وحتى يحين ذلك الوقت، سيتعين علينا تقديم القرابين اليومية من دمنا وأمننا وأرواحنا وفلذات أكبادنا كأضحيات ملزمة لطوابير البغاء السياسي الممتدة إلى ما لا نهاية.

أترك تعليقاً

التعليقات