محمد القيرعي

محمد القيرعـي / لا ميديا -
إن أي حركة سياسية اجتماعية وثورية لا ترى إلا بمنظار زعاماتها والمتربعين على عرشها فإنها تسقط من اعتبارها مئات الآلاف وربما الملايين من الناس الذين لبوا نداءها بأثر من التاريخ الرجعي الذي تتضاءل فيه المثل الثورية لتطغى الأنانية الشللية والطائفية والمذهبية على ما عداها.
وتلك هي بالفعل إحدى أعقد معضلاتنا السياسية والمدنية والاجتماعية الشائكة كشعب، بالنظر إلى شيوع العقلية الاستحواذية والإلغائية ذاتها وهيمنتها المطلقة على سير ومسارات مجمل الأحداث والتحولات الثورية التي شهدتها بلادنا، ليس فحسب خلال العقود الستة الفائتة منذ أيلول/ سبتمبر 1962، وإنما منذ الأزل، بالنظر إلى أن كل فعل أو تحول ثوري كان ولا يزال ينطلق عادة من المبدأ ذاته القائم على أبجدية الإخضاع القسري والإلغاء الكلي للطرف الأضعف (المهزوم في أي معادلة وطنية وليدة) بصورة قائمة على النبذ والمصادرة المشاعية لحقوقه وكرامته وآدميته ومواطنته، انطلاقا من كون التاريخ ومساره الوطني يصبحان في مطلق الأحوال وعقب كل عملية تغيير حكراً خالصاً للطرف أو الأطراف المهيمنة والمنتصرة في لعبة الصراع السياسي والاحترابي، والتي توغل من فورها في إعادة صياغة التاريخ الوطني والإنساني ليبدأ وينتهي دائماً عند أقدامها.
والأمثلة كثيرة ومتعددة، ففي عام الفيل المشؤوم بالنسبة لنا معشر "أخدام" اليمن، في القرن الخامس الميلادي، استبدل اليمنيون، وبحبور منقطع النظير، بالفتح الديني والحضاري الحبشي الذي قام به الفاتح أبرهة الأشرم لتخليصهم من نير التخلف والوثنية، الاحتلال الوثني الفارسي الذي جلبه سيئ الصيت سيف بن ذي يزن، وليتم على ضوء ذلك الحدث إعادة صياغة التاريخ الوطني والإنساني بطريقة أجازت لهذا الشعب المأزوم والمتخم بالتخلف استعبادنا نحن بقايا جموع فاتحي بلادهم ومحرريهم من رجس الوثنية (معشر "أخدام" اليمن) على قاعدة الإلغاء الكلي الذي لا يزال سارياً ومكرساً حتى اللحظة لحقوقنا وآدميتنا وشخصيتنا الاعتبارية والقومية والإنسانية، متجاوزين بذلك (أي المجتمع اليمني) كل القيم والاعتبارات الحضارية والقيمية والوطنية والدينية.
وهي الصيغة ذاتها التي حكمت سير ومسار ثورة أيلول/ سبتمبر 1962 التي جعلت من كراهية السمات الهاشمية (كمذهب ديني وكطبقة اجتماعية) هدفاً ثورياً أسمى، رغم أن الإمام المنقلب على نظامه الملكي باسم الثورة في أيلول/ سبتمبر 1962 كان فرداً واحداً وليس إلهاً متجسداً (كالسيد بوذا) في شخوص ثلث الشعب اليمني، الذي عانى ولا يزال حتى اللحظة من آثار ونتائج ذلك الهدف الثوري "الأسمى"، والذي لم يخلف طيلة العقود الستة الفائتة سوى الخراب والدمار والاحتقانات الاجتماعية والمذهبية المتولدة من رحم الكراهية الثأرية (الممسوسة بجان الثورة).
والوضع ذاته لا يختلف البتة ومن حيث المبدأ مع ما آلت إليه ثورتنا الحبيبة (ثورة المطرقة والمنجل) في جنوب ما قبل الوحدة، في تشرين الأول/ أكتوبر 1963، والتي غرقت هي الأخرى ومنذ مراحلها المبكرة في دهاليز الصراعات الأيديولوجية وآفة التصنيفات الإلغائية والتجريمية بين أجنحتها المختلفة، والتي تنوعت ما بين اليمين الانتهازي واليسار الانتهازي والزمرة والطغمة و... و... و... إلخ ذلك من مسميات كانت سبباً لنشوب جملة من الحروب والصراعات الأهلية الداخلية التي توالت تباعاً، بدءاً من العام 68 و69 و78 لتنتهي بكارثة كانون الثاني/ يناير 1986 الدموية، التي أكلت الأخضر واليابس، فيما المطرقة والمنجل لم يريا النور مطلقاً على أرض الواقع، إذ لم يخرجا من طور الشعارات النظرية، لتأتي بعدها وحدة الثاني والعشرين من أيار/ مايو 1990 وتطمر كل ما تم هدمه وبناؤه على إيقاع الثورة الحمراء ذاتها، والتي لم يطل بها الوقت كثيرا عقب الوحدة حتى باتت مدانة ومكبلة في محاكم التفتيش العفاشية - الخونجية الوليد من رحم تحالف الرذيلة آنذاك، في أعقاب حرب صيف 1994 التي أتاحت نتائجها آنذاك للمنتصر (السيد عفاش تحديدا) إلغاء ومصادرة كل الإرث الثوري والوحدوي للجنوب، واحتكاره لشخصه، حتى فيما يخص تلك الصورة الجماعية التاريخية الشهيرة لرافعي علم الوحدة، والتي تم تحويرها كجزء من عملية الشروع في إعادة صياغة التاريخ القومي والوطني ليبدأ وينتهي في البلاط الأسري والعشائري للرئيس صالح.
وهي الطريقة ذاتها التي فقدت بها الثورة الشبابية أيضاً في شباط/ فبراير 2011 عذريتها مبكراً على يد فحول المطاوعة، لتسقط مضرجة بالعار في مستنقع (خونج الرذيلة)، وذلك حتى قبل بلوغها سن النكاح الشرعي، وفق مفهومهم اللاهوتي العقيم.
وهنا ينشأ السؤال الذي يتمحور ربما حول ما إذا كان في مقدور صانعي ثورة أيلول/ سبتمبر 2014 تخطي تلك العقدة التاريخية المشينة؟ وهل ستنجر يوماً ما (أي الثورة) إذا ما فرغت من حروبها الحالية للانغماس في النزعة الثأرية والإلغائية ذاتها تجاه الآخر، أياً يكن؟ خصوصاً وأن الأمر الذي لا ينبغي إغفاله أو إنكاره في هذا الصدد يكمن في أن بعض المتربعين الحاليين في صفوفها الأولى ومن الذين هيمنوا طويلاً على مفاصلها الأمنية والاستخبارية أمثال (خ. م) و(ط. م) المسنودين بزمر أسرية ومليشياوية فتاكة، وحاولوا منذ البدايات الأولى للثورة تكريس هذا المنحى التصفوي بقوة وبدون تمييز بين صديق وعدو وبين حليف ومحايد، وبصورة طالت حتى أبناء الثورة ذاتها، الأمر الذي لا أجده داعياً لذكرهم هنا.
صحيح أن بلادنا ومجتمعنا يعيشان حالة تأخر اجتماعي وثقافي ككل المجتمعات العربية؛ لكن المفترض أن ثورة أيلول/ سبتمبر 2014، وهذا ما نزال نعتقده فيها، جاءت لتكريس حلم أمثالي من المقصيين والمهمشين بأن يكون لحياتهم معنى، حياة تبنى على قيم أخلاقية صلبة تؤهلهم لأن يكونوا جزءاً فاعلاً في الجماعة، وتضمن للفرد منهم القدرة على أن يكون مستقلاً قادراً على التفكير الحر وإطلاق طاقاته لصالح المجموع ولصالح ذاته، وهي المعادلة التي يسعى إليها كل إنسان واعٍ وكل ثوري حقيقي متنور ومسؤول.
وحتى يحين ذلك الوقت ما علينا سوى الترقب والصلاة بكل جوانحنا ألا يخيب ظننا في ثورة نأمل أن يشكل انتصارها إيذاناً بميلاد غدٍ أفضل للإنسانية.

أترك تعليقاً

التعليقات