محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
أهم ما ميز عرض “كراون جول” لاتحاد المصارعة الأمريكي (دبليو دبليو آي) الذي أقيم يوم 21 أكتوبر الجاري في مسرح محمد عبده الفسيح جدا في العاصمة السعودية الرياض، تمثل في ذلك الحضور البارز والكثيف والملفت جدا للنسوة السعوديات اللواتي قعدن بصورة مختلطة ودون قيود، طبعا، مع الرجال بهواتفهن المحمولة وصرخات التشجيع المهولة، والأهم طبعا، بصدورهن العارية من كل بوادر الحشمة.
وبالطبع، فقد تمثلت أهم نتائج الدورة التي استهلت كما هو معلوم بصلية من خمسة صواريخ باليستية “حوثية” انهالت في الليلة السابقة للعرض الأربعاء 20 أكتوبر على معسكر قوات الواجب بمنطقة جيزان إيذانا بافتتاح ألعاب الدورة الرياضية من جهة، وأسفر عنها في الوقت ذاته مقتل وإصابة 35 عسكريا سعوديا، والتي جاءت لتذكيرهم ربما ولتذكير العالم أجمع بحقيقة وصلابة صمود شعبنا الذي لم ولن يلين في مقاومة العدوان.
كذلك تمثلت أهم نتائج الموسم في “كراون جول” بخروج النجم الأسطورة “إيدج” منتصرا على خصمه “الشعيف ابن الشعيف سيث رولينز”، فيما تمكن فريق “آر كاي برو” من الاحتفاظ بلقبي الزوجي، بالإضافة إلى انتقام المكرم “جولد بيرج” المريع من غريمه “بوب لاشلي”، واحتفاظ بطلي المفضل الأسود “بيغ أي” ببطولة سماكداون. والأهم أنه تم تتويج ملك وملكة جديدين للحلبة هما “زيلينا فيجا” عن فئة النساء و”إكسافير وودز”، الأسود طبعا، عن فئة الرجال، بصورة اتسمت بسلاسة وتسامح حضاري سعودي مطلق، نظرا لانتفاء خطورة هذا التتويج على سلامة وشرعية النظام الملكي المتداعي لسلمان ونجله المدلل محمد بن سلمان، حتى في حال قرر ملكا الحلبة الجديدان التجول بتاجيهما علانية وبكل حرية في شوارع الرياض.
الأمران الوحيدان ربما اللذان أثارا انزعاجي في مجمل أحداث النزال تمثل في احتفاظ “رومان رينز” بلقب بطولة “راو”، وإخفاق محبوبتي التي أهيم بها عشقا في سري “بيانكا فلير” في استعادة لقب البطولة النسائية.
وعلى كل حال فإن الخاسر الأكبر والوحيد ربما من وجهة نظري، والذي غادر هذا النزال برمته مهزوما مذموما رغم أهميته الموسمية أيضاً هو فتى الرياض المدلل محمد بن سلمان ونظامه الملكي الهش، في نظر غالبية شعبه على الأقل.
ففي بلد دفع ملكه الثالث فيصل بن عبدالعزيز حياته وعلى يد ابن شقيقه في مارس العام 1975 ثمنا لقراره آنذاك بالسماح لجهاز التلفاز البدائي جدا في تلك الحقبة بالدخول إلى منازل السعوديين، فإن الحداثة المُفصّلة حالياً على مقاس محمد بن سلمان لم تعد تثير فحسب غضب وحفيظة قطاعات واسعة من شعبه الذي نشأ أساسا وتربى على قاعدة النبذ الأخلاقي لكل أشكال الحضارة المنفتحة، بالصورة التي أقسم بدموع أطفال الصفيح إنني لمستها بصفة شخصية خلال وجودي في المملكة عام 2019 من خلال مرأى عشرات الشعارات ذات الصبغة الشوفينية والدينية المتصلبة المناوئة لابن سلمان والمكتوبة بوضوح وكثافة بالغين على جدران الأسوار وبعض الأبنية أثناء تجوالي في جدة ومكة والرياض، بقدر ما تعد من منظور غالبيتهم على الأقل خروجا سافرا ومرفوضا عن الدين والفضيلة والقيم المتوارثة... إلخ.
ومسألة كتلك تعد بديهية بالنسبة لشعب لا يزال يعيش في الواقع من الناحيتين العقائدية والفكرية على نسق القرون الوسطى، جراء نشأتهم الفقهية المتبلدة تلك والمتوارثة جيلا بعد جيل، والمنبثقة أساسا من قيم التصوف اللاهوتي العقيم للمذهب الوهابي بتأويلاته الشوفينية التي كوت العالم بأسره بنار الإرهاب والفوضى والتطرف عبر إيغال منظريه بنشر بذور أفكار وآليات القتل والدمار المنبثقة من رحم هذا المذهب ودعاته ـ قاتلهم الرب، على غرار “داعش” و”القاعدة” بتسمياتهما المختلفة والعابثة في أغلب قارات العالم من آسيا إلى أوروبا إلى أفريقيا و”الشرق الأوسط”، إلى أمريكا ذاتها... الأمر الذي يجعل من تجربة محمد بن سلمان الحداثية مرشحة مثالية في مثل هذه الظروف لحصد النتائج ذاتها، وربما بطريقة أسوأ من تلك التي حصدتها في تسعينيات القرن العشرين التجربة الحداثية لكل من الزعيم السوفييتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف ووزير خارجيته إدوارد شيفارنادزه عبر مشروع “الجلاسنوست”، وتعني الإصلاح السياسي والاقتصادي، ومشروع “البرويسترويكا” الداعية للشفافية والمكاشفة، واللتين أدتا في نهاية المطاف وكنتيجة حتمية لتهور غورباتشوف التحديثي إلى تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي بحيث لم يتسنِ لهما حتى إطفاء شمعتهما الثانية.
والمفارقة الملفتة هنا تكمن في أن “بروسترويكا” غورباتشوف كانت قائمة على مبدأ المكاشفة الحقيقية القائمة على مبدأ اللاقمع واللاعنف أو الإخضاع بالقوة للنوع الاجتماعي المعارض، على عكس تجربة محمد بن سلمان الذي أطلق مشروعه التحديثي، غير المدروس طبعا، مصحوبا بحالة مروعة من القمع والاغتيالات والإرهاب السياسي التي طالت خصومه ومناوئيه من داخل وخارج الأسرة المالكة، والتي استهلها بطبيعة الحال عقب نجاحه وبإسناد مباشر من سيده في البيت الأبيض آنذاك دونالد تراب بتنفيذ سطوه الانقلابي على السلطة أواخر العام 2015 بما خلفته تلك الخطوة من مخاطر وتداعيات كارثية وخيمة على استقرار ومستقبل نظام حكمه الهش.
وإذا ما أمعنا النظر في أسباب وبواعث الفشل والهزائم المتوالية التي منيت بها في السنوات الأخيرة مجمل المشروعات الإخضاعية لنظام ابن سلمان التآمري على صعيد المنطقة ككل، بدءاً من طهران التي باتت حاليا محط تودد النظام الملكي السعودي بعد عقود من قرعه لطبول الحرب والتحريض والتآمر السافر ضد الجمهورية الإسلامية، إلى الشقيقة سورية التي أوعز النظام السعودي مؤخرا لبعض عملائه في المنطقة، ملك الأردن تحديدا، إعادة فتح علاقات بلاده الدبلوماسية مع دمشق تمهيدا ربما لخطوة مماثلة بات يتطلع إليها ابن سلمان عقب فشل مشروعه التآمري الذي كلف خزينة بلاده تريليونات الدولارات ضد هذا البلد بغية إسقاط نظامه الثوري وإزاحته كليا من محور المقاومة، مرورا بلبنان الذي أفشل قائد مقاومته، السيد حسن نصر الله مؤخرا آخر مشاريع الرياض التآمرية المحاكة ضد بلده من خلال حكمته البالغة في التعامل مع الأحداث الأخيرة التي نشبت في عين الرمانة، والتي كان قد تكفل حزب القوات اللبنانية بقيادة المأجور السعودي البديل على ما يبدو لسعد الحريري، سمير جعجع، بإشعال فتيلها الذي لم ينفجر، وانتهاءً باليمن التي لم تعد نتائج التدخل السعودي بحاجة إلى المزيد من التفصيل والتأويل حولها، ولم يتبق سوى مشروع ابن سلمان التحديثي الذي ربما سيكون هزيمته الماحقة هذه المرة.


* الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات