محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
هذا الشاب البائس والمهمش، ذو الخمسة عشر ربيعا فقط من عمره، محمد سلطان الخبتي، والذي يعد حدثا بمقتضى القانون الدولي الإنساني، هو واحد من خمسة من شبابنا المهمشين الذين لا يزالون محتجزين ومختفين قسرا حتى اللحظة من قبل الاستخبارات العسكرية لمرتزقة الشمايتين، في إحدى الثكنات العسكرية السرية التابعة لما يسمى «اللواء الرابع مشاة جبلي»، الذي يقوده سيئ الصيت أبو بكر الجبولي بمنطقة معبق التابعة إداريا لمحافظه لحج، وذلك منذ أن تم اعتقالهم في منتصف آب/ أغسطس الماضي 2023، إلى جانب ثمانية عشر آخرين من شبابنا المهمشين (الذين تم إخلاء سبيلهم في وقت سابق باستثناء هؤلاء الخمسة) في سياق مساعي جلاوزة الاستخبارات العسكرية والأمنية آنذاك، والتي لا تزال حثيثة حتى اللحظة، للنيل مني شخصيا عبر إخضاع هؤلاء الضحايا البائسين لشتى أشكال العسف والتعذيب والإيذاء النفسي والبدني المروع والإخفاء القسري، بغية إرغامهم على الإدلاء بإفادات كاذبة وموثقة تؤكد مزاعمهم الأمنية حول تورطي بممارسة أنشطة تخريبية ماسة بأمن دولتهم الهزلية والتخابر مع جماعة «انقلابية» (الحوثيين) والتآمر لتشكيل خلايا «حوثية» نائمة في المنطقة.
إنها المزاعم والاتهامات التي لا أزال، أنا محمد القيرعي، على ضوئها وللشهر الثالث على التوالي طريد عدالة الخونج المروعة، حيث أعيش حالة من الاختباء والتنقل المستمر في مناطق الأرياف هربا من بطشهم وانتقامهم، الذي استعر بقوة ووحشية مفرطة ضد الموجودين منا في قبضتهم بالشكل الذي أدى إلى إحداث أضرار بدنية فادحة بهذا الشاب الحدث -إن جاز التعبير- محمد سلطان الخبتي (أحد خمستنا المعتقلين)، والذي تم نقله قبل أيام إلى أحد مستشفياتهم، بعد أن فقد القدرة كليا على الحركة جراء التعذيب الذي تعرض له على مدى الأشهر الفائتة، والذي أدى على ما يبدو إلى تهتك في عموده الفقري أو حبله الشوكي، لا أعلم في الحقيقة؛ إذ إن كل ما أعرفه حاليا هو أن النصف الأسفل من بدنه بات مشلولا بدرجة كلية مما أفقده القدرة على المشي وعلى تحريك باقي أعضائه البدنية والحيوية بصورة سليمة وطبيعية.
ومع هذا، ورغم حجم المأساة وفظاعة الجريمة التي طالته في محبسه ودون وجه حق على يد جلازوة الرذيلة، إلا أن الأمر الذي يضاعف حجم مأساتنا النفسية والشخصية يكمن في عجزنا وعجز أسرته الكلي حتى اللحظة عن معرفة وضعه الصحي بشكل دقيق ومعرفة الأضرار الناجمة عن إصابته ونوع التعذيب الذي أخضع له وشكل الأدوات المستخدمة أيضا، لأنه لا يزال مختفيا ومحتجزا حتى اللحظة حتى وهو داخل مشفاه من قبل مليشيا الإصلاح واستخباراتها العسكرية، فيما لا نزال نحن من جهتنا طريدي عدالتهم المروعة وفاقدي القدرة والوسائل على التواصل والاتصال وتقصي حقيقة ما تعرض له.
صحيح أن الأمر المتعارف عليه هو أن مظاهر الفوضى غالبا ما تسود، وفي جانبها الأعم أيضا في خضم الحروب الداخلية الأهلية الناشبة في أي بلد كان في المعمورة، إلا أن الحرب الأهلية الراهنة في بلادنا أبرزت الجانب الأسوأ والأكثر انحطاطا من فاشية الخونج الدموية وبربريتهم، والذين لم يتورعوا عن ارتكاب أفظع الجرائم بحق الإنسانية في سياق نهجهم الثأري والانتقامي المكرس عادة لاستئصال المخالفين وتبرير التطرف والتعدي حتى على الأطفال والنساء وانتهاك الحرمات وسفك دماء الأبرياء والمواطنين العزل والمستضعفين والتنكيل بهم عبر الاعتقالات العشوائية التعسفية والإخفاء القسري لضحاياهم، بما فيها الإعدامات المرتكبة خارج نطاق القضاء كما حدث لعضوي قيادة حركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن، الشهيدين سعيد شكير وحمادي الصوملي، وانتهاء بضحيتهم الأحدث والحدث في الوقت ذاته محمد سلطان الخبتي، الذي لا يدرك في الواقع (ورغم فداحة الثمن الذي دفعه على يد الخونج مقابل زندقته المزعومة) طبيعة الفوارق الطبقية والمذهبية بين السنة والشيعة، أو حتى الفارق الأيديولوجي والحركي ما بين الإصلاح وخصومه «الحوثيين».
رغم أنه بات يدرك الآن -وفق حدسي الشخصي على الأقل- أنه دفع حياته وحريته وآدميته وسلامته البدنية، بسبب هويته العرقية واللونية كـ»خادم» في المقام الأول، وثمنا من الناحية الأخرى لولائه الشخصي والحركي لمثال أو نموذج سياسي على شاكلتي يعجز في الواقع عن تأمين أبسط شروط الحماية الاعتبارية والحركية والقانونية المفترضة له ولأمثاله من الضحايا المتوالين تباعا وسط طوفان هذا المد اللامتناهي من البغض والكراهية العرقية الخونجية المتقدة لكل ما هو أسود ومقدس في هذه البلاد.
عموما، يمكن القول -إيجازا- إن ما لحق بهذا الشاب البائس على يد استخبارات المطاوعة، وما يطالنا يومياً كمهمشين، بات يرمز بالفعل إلى جذور العبودية والفصل العرقي والعنصري الصريح والأكثر والأسوأ قتامة في تاريخ البلاد كلها، بالنظر إلى استفحال أعمال القمع والتنكيل بطابعها العرقي الصرف، والذي يقابله في المقابل صمت مريب إلى حد التواطؤ العلني والمفضوح مع مرتكبي هذه الجرائم من قبل أغلب الهيئات والمنظمات المعنية بالشأن الحقوقي والإنساني ومكافحة التمييز على المستويين المحلي (الوطني) والدولي، لدرجة أننا وفي جميع مخاطباتنا الشخصية والحركية الرسمية منذ سيطرة الخونج على مقاليد حياتنا لم نعد نستخدم مصطلحات مثل جبر ضرر الضحايا أو بضرورة الاعتراف القانوني بوضعهم كضحايا وتعويضهم أو حتى تخليد ذكراهم على الأقل عبر اكتسابنا ولو لأدنى قدر ومهما كان ضئيلا من الحق في العدالة الاجتماعية والجنائية أو حتى المطالبة على استحياء بوضع حد لهذا القمع والإجرام الخونجي المستعر على شكل عقاب جماعي يومي بات يستهدف فئاتنا المنبوذة والمغيبة بصورة غير مسبوقة، بقدر ما باتت مطالبنا تنحصر أو تتمحور فحسب بمعرفة أماكن احتجاز أبنائنا ورفاقنا وشبابنا المغيبين قسرا داخل الأقبية والثكنات العسكرية والمليشياوية التابعة لإخوان الشيطان قاتلتهم المشيئة، ومعرفة ظروف احتجازهم ومعاناتهم وما الذي يتعرضون له من عسف وجور وطمس كلي لوجودهم وشخصياتهم الانسانية بصورة باتت تدل بدرجة كافية على فظاعة ووحشية المناخ الإلغائي الذي سيتعين علينا مواجهته بمفردنا، وحيدين في معركتنا الحالية والمستقبلية بكل تأكيد حتى تبت المشيئة في مصيرنا، عوضا عن حلفائنا من ثوار الغفلة القابعين خلف كواليس أيلول/ سبتمبر 2014 وفي جغرافيا السيادة الوطنية الذين شطبونا هم أيضا، كما توحي بذلك كل الدلائل، من ذاكرتهم ومن أدبياتهم التبشيرية وحتى من خارطة اهتماماتهم الثورية كليا، وللأسباب والذرائع العرقية ذاتها، المهيمنة على مفاصل واتجاهات الفكر السياسي والديني والاجتماعي والثقافي والحداثي المزعوم في وطن لم يعد يحوي في جنباته سوى الكره والدنس والخطيئة.
كم كنت أتمنى لو تسنى لوالدتي (رحمتها المشيئة) رؤية ما حل بهذا الشاب (الخبتي) على يد خونج الرذيلة؛ لعلها تدرك من خلاله فظاعة ووحشية القيم العنصرية التي تستهدفنا كفئة منبوذة، ولربما شكل لها هذا الواقع حافزا للإيمان بعدالة نضالنا في سبيل قضيتنا التحررية معشر المهمشين، رغم ثقتي الأكيدة في الوقت ذاته بأنها كانت ستعنفني بقسوة؛ كون ما طال هذا الضحية هو في الأساس نتاجا حتميا وطبيعيا لشقائي وتمردي المرفوض على القيم الاجتماعية المتوارثة التي لا قبل لنا بمجابهتها من منظورها الشخصي على الأقل!

أترك تعليقاً

التعليقات