قطوف من جنى النهج
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
مغامرةٌ أحببت خوضها، وتجربةٌ لطالما احتضنتني ويسرت لي الاندماج بمكوناتها 
والامتزاج بكيانها، فقد بلغ مستوى التزامي بها ولزومها لي حد التماهي، بحيث لم أعد قادراً على تمييز وجودي بمعزلٍ عن هذا الدرب الذي مشيت فيه عن رغبة وتلقيت كل ما قد ألاقيه فيه أثناء السير عليه حتى نهايته بصبرٍ وحب وقناعة.
فأما الصبر فإنه الزاد الممكن لي من الحصول على متطلبات التأمين لزاد الرحلة التي بدأتها ولن يمنعني عن بلوغ آخر نقطة فيها سوى خروج الروح من هذا الجسد وتحوله إلى شيء زائد عن الوجود، ولم يعد ذا قيمة، بل أصبح من الأشياء التي يجب التخلص منها ومواراتها عن الأنظار.
وأما الحب فهو الماء والنور والهواء الذي يحمي وينمي ويقوي زروع الدوافع التي تسير بي صوب الهدف الذي أسعى إليه ويعزز في ضميري نبل الغاية المرجوة من كل هذا الترحال المطرز بالشوك والجمر، هذا الترحال المحفوف بالمخاطر والمفعم بالألغام والمليء بالحيات الرقطاء والدروب القاسية المضنية الكؤود.
وأما القناعة فهي الدرع الواقية من التراجع والوهن والانكسار، وهي المقام الذي يريني عظمة ما أحمل ويعرفني مقدار ما يجب علي أن أوطن نفسي عليه كثمن طبيعي لكل ما بات عندي مسلمة قطعية ترتبط ارتباطاً كلياً بما ألتزمه من قيم، وأحياه من مبادئ، وأعبر عنه من انتماء لدين وتمثل لعقيدة، وهي كذلك القوة التي تعينني على التحري للوعي والبحث عن موجبات ومحققات البصيرة.
ولكن قد يقول قائل: لقد صورت لمن يقف على ما اتخذته توطئة لما تود سبر غوره أنك ممَّن قد جاب بفكره مغرب الشمس ومشرقها وعاصر بوجوده أكثر المحطات حساسية وأشد الأحداث آثاراً وأقدرها على صنع التحولات وتحقيق المتغيرات! وبالطبع لست ذاك الشخص، وليس لدي ما يخولني ادعاء امتلاك ما يقربني منه وإن بمستوى 1%، لا من قريب ولا من بعيد، ولم أكن يوماً بمستوى يعطيني الحق بالقول عن نفسي مثقف أو حتى مطلع وملم بما جرى ويجري، ولكني إنسان تلقى بوعي وإدراك حصيلة الصراع بين الحق والباطل على امتداد الزمن الذي صحب وجود البشرية على هذه الأرض من خلال تشكلات هذا الصراع في ورثة المعسكرين وفي كلا الطرفين المتجسد بهما امتداد وجود الحق والباطل وذلك في فترة زمنية لا تزيد عن 17 سنة، لاسيما زمن الحرب السادسة على صعدة بغرض القضاء على معسكر الحق المتمثل بمشروع المسيرة القرآنية المباركة. أضف إلى ذلك زمن السنوات السبع المعبر عن أعلى مراتب الصمود والتصدي لأعتى عدوان كوني عرفته البشرية على الأقل في تاريخها المعاصر.
هذه السبع السنون التي تحوي في طياتها مكونات كتاب يروي في طياته تفاصيل أعظم الثورات العادلة وأشرف النهضات الإنسانية الملبية لرغبات الفرد والمجتمع التواق للعزة والراغب بالحرية والمتعطش للسيادة والاستقلال والناهض بواجبه تجاه جميع أمته التي ترتبط به ويرتبط بها بموجب الدين والقضية والمصير المشترك، بل المصير الواحد الذي لا يسمح بوجود قواطع تفصله عن أبناء أمته ودينه تحت أي مبرر وبأي صيغة، سواءً ما كان بمسمى جغرافي، وهو ما يشمله العنوان الذي تحويه لافتة الوطنية والوطن، أم ما كان بمسمى عرقي أوسع نطاقاً من المسمى السابق، وهو عادة يقوم على أساس المشتركات بين جماعة ما تربطهم ببعضهم عدة عناصر، كوحدة العرق والتراب واللغة والتقاليد والأعراف، وعادة ما يصطلح عليه باسم القومية، أم ما كان بمسمى طائفي أو مذهبي يرى الأمة مقتصرة على أبناء مذهبه وطائفته ويرى الإسلام شيئاً خاصاً به وعليه، فساحته هي ساحة الإسلام، وما عداها ما هي إلى ساحات كفر وشرك، وهو وكل من يقولون برأيه ويدينون بمذهبه الفرقة المكتوب لها دخول الجنة والنجاة من النار، وأما بقية المسلمين فالنار مثواهم ومعادهم. ولا شك أن هذه الأصنام الثلاثة تم تدميرها واستئصالها من واقع ونفوس المنتمين بصدق إلى هذه المسيرة والمعبرين بحق عن هذا المشروع والواعين بشكل تام لهذه الثورة.
من هنا استطاب للدم ترجمة نبضات قلبٍ حاول ولا يزال أن يجعل من أنفاس وكلمات صاحبه لسان حال قضية حملها والتزم بها. وأن يجعل من جرة قلمٍ استقر بين أصابع يده نقطة الاتصال بكل من عرفوا ربهم وأقروا بعبوديتهم له وتوحيدهم إياه بالقول والعمل والسلوك والموقف، وهم المتبعون لإقرارهم القلبي وإعلانهم القولي بالاستقامة العملية والسلوكية لكل ما يترتب على قولهم: «ربنا الله»، إذ تم لهم بذلك الخلوص لله والسير على سراطه والالتزام بهداه والعمل في سبيله وفق الطريقة التي رسمها لهم في كتابه وعلى أساس الانقياد له سبحانه من خلال اتباع القادة الذين ارتضاهم لعباده، ولكن كيف نفرق بين المنتمين لهذا المشروع بحيث نستطيع معرفة الصادق من الكاذب؟! وما هي المقاييس التي يجب الانطلاق على ضوئها؟
الجواب بحسب فهمنا القاصر والمحدود لما قدمه الشهيد القائد (رضوان الله عليه) يمكن لنا بيانه من خلال التالي: إن الله تعالى قد جعل هنالك سنة ثابتة ودائمة بدوام وجود الإنسان وممتدة بامتداد حركة الرسل الذين اصطفاهم للناس من أجل إبلاغ تعاليم دينه الذي ارتضاه لعباده، تلك التعاليم التي تبني النفوس وتهذب المشاعر وترتقي بالمستوعب لها وتبني الواقع كله وفقاً للعدل والحق والخير والمساواة والحرية، وتقيم صرح الحياة على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومهما الواسع والشامل.
في ما يتعلق ببناء النفوس، لا يكفي أن يلتزم المؤمنون بالله إيمانهم فقط كعقيدة يعتقدونها لكونها مسلمات استقرت بقلوبهم ووعتها نفوسهم وأقرتها ألسنتهم، إذ لا بد من تقديم الشواهد العملية، من خلال تعاملهم مع الأحداث والأشخاص وتبنيهم لقضايا الناس ومواقفهم مما يصدر عنهم أو يقع عليهم. وعليه فإن هنالك ابتلاءات تقع على هذا الإنسان الذي يرى نفسه عبداً لله وحده، مديناً له بالربوبية، هي بطبيعتها تمثل عوامل تربوية، لما لها 
من آثار إيجابية تعود بالنفع للفرد والمجتمع والأمة بل والبشرية جمعاء.

هذه العوامل التربوية تأتي على شكل ابتلاءات كسنة إلهية ثابتة ليمتاز بموجبها الخبيث من الطيب والصحيح من الفاسد، ويعرف على إثرها الصادق من الكاذب. وتقع هذه الابتلاءات في سياقين أو لنقل تسير في جانبين، هما: الجانب المادّي، باعتبار الماديات مما يتملك على الإنسان لبه وقلبه، لذلك اتجه الإسلام من خلال القرآن الكريم لتخليص المؤمن من الوقوع أسيراً للمادة، وعلى وجه الخصوص المال والثروة، إذ شرع الله سبحانه الكثير من الأحكام التي تنظم علاقة المسلمين بالمال وافترض عليهم في هذا المال حقوقاً يجب عليهم إعطاؤها لمن جعل الله لهم حقاً في هذا المال بدءاً بالزكاة التي هي ركن من أركان هذا الدين الحنيف وكذلك الصدقات والإنفاق بشكل عام، ولما للمال من أهمية كمحك لتحقق الإيمان بالله من عدمه جعل الله لقضية الإنفاق والعطاء في سبيله ولعباده الفقراء والمحرومين أجراً وثواباً لم يجعله لأي فريضة أخرى، إذ الجزاء فيه مضاعف سبع مائة ضعف "والله يضاعف لمن يشاء". وهكذا جعل الله شرط الدخول في تجارة رابحة معه بذل النفس والمال في سبيله، بل إن الجهاد في سبيل الله كثيراً ما نجد القرآن الكريم في سياق حث المؤمنين على إقامته يقدم الجهاد بالمال وبذله في سبيل الله على الجهاد بالنفس وتقديمها على مذبح العشق الإلهي.
وإلى جانب الماديات يأتي كذلك الابتلاء في الجانب المعنوي الذي يتصل بدرجة أساسية بدواخل النفس، وما تختزنه من رواسب وعوامل معنوية هي بحد ذاتها من الأشياء التي يعد وجودها خطراً قاتلاً لإنسان يتصل بحياته ومصيره.
لذلك نجد الإسلام في معظم ما اشتمل عليه من نظم وتشريعات يتجه إلى النفس ليعمل على تطهيرها من كل ما يشكل مانعاً من سموها أو يحول دون التقائها مع سائر نفوس المنتمين إليه والامتزاج والتداخل مع تلك النفوس إلى درجة التماهي والذوبان فيها، بحيث تصبح مجرد لبنة ضمن لبنات البنيان المرصوص الذي لا مجال فيه لتميز عرق عن عرق ولا قبيلة عن قبيلة ولا منطقة عن منطقة ولا لسان أو لون عن لسان ولون آخر. ولذلك لكي يتم تعبيد النفس تعبيداً مطلقاً لله تعالى فقد فرض الله السعي والطواف في الحج أو العمرة حول مجموعة من الأحجار التي تشكل مبنى كل ما فيه لا قيمة له إلا لكونه يعد مقام الاستجابة لله وتنفيذ أمره. والغاية من الأمر الإلهي بالطواف والسعي ما هو إلا لتحطيم كل تلك الحواجز المعنوية والحجب التي تصنع من الذات ونوازعها صنماً يعبد من دون الله ولا دين ولا إيمان، بحسب ما يستوحيه الشهيد القائد (رضوان الله عليه) من القرآن الكريم، ولاسيما في ما تضمنه من آيات تعرض حركة الرسالات وطبيعة ما كانت تواجهه من تحديات وتناقشه من أوضاع لمن يدخل في هذا الدين بإملاءات وشروط، ويريد من الذين سيكون معهم ويتحرك بحركة الحق الذي يحملون أن يحفظوا له مقامه المعنوي وأن يعاملوه بصورة مختلفة عن سائر الناس الذين ليس لديهم من الامتيازات والمكانة ما لديه.
وهذا بالطبع ما يرفضه القرآن الكريم الذي يقدم لنا حقيقة هؤلاء الذين يتحركون بموجب عقدة استكبارية ضخمت ذواتهم في أعينهم إلى حد أن جعلتهم لا يرون أحداً دونهم على هذه الدنيا. كما أن الخسارة كل الخسارة هي في اتباع كبار القوم وأعيانهم الذين يعرضهم القرآن باسم الملأ الذين كانوا يمارسون الصد عن سبيل الله من واقع استكباري مقيت جعلهم في النهاية يسقطون تحت تأثير أنانيتهم التي أوردتهم موارد الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة، إذ إن الأنا التي بنت أحكامهم وتصوراتهم وحكمت وعيهم وتحكمت بنظرتهم أنزلتهم إلى مصاف إبليس وأوجبت عليهم ما استوجبه إبليس على نفسه من الله من لعن وطرد ومقت وخزي وانحطاط.
كما يضع الشهيد القائد (ر) قاعدة هامة مفادها: إن الأعمال الكبيرة لا يقوم بها إلا صغار الناس والمستضعفون من عباد الله الذين ليس لديهم قائمة طويلة من الشروط والإملاءات على الساعين لإقامة دين الله، ولكنهم يتحركون بوعي وقناعة ولديهم قابلية على أن ينهضوا بواقعهم ويقدموا كل ما بوسعهم رغبة بما عند الله وسعياً لنيل رضاه، وهم الذين ليس هنالك موانع تعيق حركتهم وتمنع تقدمهم في سوح مواجهة االباطل والتصدي للظلم والطغيان، ولا يوجد في قاموسهم ما يمكن عده عاملاً يسهم في تثبيطهم وتخويفهم وتراجعهم، كما أن نفوسهم تظل زاكية مهما بلغوا من مكانة وشهرة نتيجة ما يقدمون أو استناداً لما تحقق على أيديهم في ميادين النصر والتمكين، فهم من لا تجد الأنا أو النحن في خطابهم، بل تراهم دائمي الرجوع إلى ربهم وشديدي الارتباط به وكثيري اللجوء إليه، يحرصون على نيل الهداية ويلتزمون سبل الوصول إليها.

أترك تعليقاً

التعليقات