أجنة يزيدية في رحم الغفلة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -

لقد استوقفنا الإمام الحسين عليه السلام قبل بضعة أيام من خلال ذكرى عاشوراء، استوقفنا لنشهد بأم أعيننا كيف استطاع دم الشهادة المغموس بحبر الرسالة أن يفتتح زمناً للحياة جديداً، بما توفر له وللثورة من عوامل وممكنات بلغ مستوى عظمتها حداً جعلها توحي لنا بأنها ما انطلقت بهذا الشكل القوي والفاعل على مر التاريخ إلا لأنها اختزلت في روحيتها روحية الرسالات كلها، بالإضافة إلى حملها جميع ما اشتملت عليه الرسالة المحمدية الخاتمة من عمق وسعة في النظرة والفكرة والحركة، بمعنى أن هذه الرسالة الخاتمة التي جعل لها الله الساحة العالمية برمتها ميداناً لحركتها ومورد إقرار بعظمتها بموجب إمكانياتها المحدثة لتغيرات كبرى والمبرزة لها في خط الإيجاب كآثار وثمار ونتائج تشهد بعظمة الرسالة ومرسلها ورسولها الذي كلفه الخالق بحملها وتبليغها للناس جميعاً.
وهكذا فإن رسالة الله تعالى أرادت للمكون البشري كله أن تكون التربية فيه إلهية، وتكون مفاهيمه إلهية، وكذلك سلوكياته ومواقفه، فيكون ربانياً في كل حركة أو قول أو موقف، وقد عمل النبي صلى الله عليه وآله على إرساء قواعد هذا البنيان وإقامة كل مداميكه، فما حانت لحظة انتقاله إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن تم على يديه بجهاد وصبر وعزم وثبات وثقة بالله تعالى توطيد كل نظم الحياة وصياغتها على أساس القرآن، وضبطها بضابط الشريعة، وتحريكها مع حركة الحق والعدل والحرية والكرامة. ومع كل ذلك فقد شاء الله أن تستمر هذه الرسالة، وألا تذهب جهود النبي (ص) هدراً، بحيث عين سبحانه من يتولى تعميم هذه الرسالة بعد وفاة رسول الله، وبمرسوم إلهي توافر له من عوامل التبليغ من قبل الله ورسوله ما يقطع بحجيته وأهميته وضرورة التزامه من قبل هذه الأمة في كل عصر وجيل، بحيث لا يبقى هنالك مبرر وعذر للذين يتنكبون طريق الغفلة ويدلفون إلى بؤر الضياع ويميلون مع كل ريح ويهيمون في كل فكرة، بعيداً عن صوابيتها وخطئها وصلاحيتها وفسادها، ويستجيبون لكل صوت ما دام يحمل الجدة والحداثة، سواء كان مطلقه من البشر أم من البقر.
ولكن مع الأسف الشديد لم تصغ هذه الأمة لنبيها كما يجب، ولم تتفاعل مع أمر ربها بما يدل على حسن استجابتها لما أراده الله لها، إذ تمكنت رواسب الجاهلية من البروز من جديد وبشكل أخطر من الحال الذي كان عليه الوضع قبل مجيء الإسلام، كونها أقيمـــــــت كجاهلية جديدة ذات مسحة دينية أكسبتها المشروعية في كل ما فعلته وأحدثته، واستمرت حركة الانحراف السائرة جنبا إلى جنب مع حركة التحريف وصولاً إلى اتساع مساحات الهدم في بنيان الإسلام والعمل على تقويضه بالكلية، ومحوه من النفوس والواقع الحياتي بحيث لا تقوم له قائمة بعد ذلك.
ومن أجل التصدي لهذا التوجه برز الحسين عليه السلام ليعيد هذه الأمة إلى دوحة الوحي ومقام الرسالة وسبيل الهداية، برز ليشهد على حجم الانحدار والتردي الذي بلغه ذلك المجتمع في مرحلة خطيرة جداً، بحيث تساوى لديه الحق والباطل، وأصبح فاقداً لسبل التمييز بينهما، لا يملك أدنى وعي بالمعروف، ولا أبسط معاني الإحساس بقيمته، ولا يجد مانعاً من أن يتفاعل مع المنكر ويهيم في أوديته... من كل هذا جاءت «كربلاء» لتصنع -عن طريق الشهادة والاستعداد لملاقاة الحتوف- الحياة الكريمة والحرة لكل جيل.
إنها الحياة التي لا سبيل لامتلاكها والحصول عليها سوى من بوابة الموت نفسه، ولا قدرة لكل المنهجيات الاجتماعية والفلسفية على إيجاد مثلها في الشمولية والفاعلية والثمار والنتائج، مهما اتسعت مدارك الإنسان وتعددت معارفه. لكن ما الذي جعل هذه الأمة لا تكتفي -من أجل إيقاظها- بكربلاء واحدة؛ بل تطلب الإصغاء للحسين ودعوته، كربلاء أخـــــــــــرى تجددت بالصورة الواحدة ذاتها التي ما اختلفت سوى في زمان الحدوث وما تعددت إلا ساحات عرضها بكل تفاصيلها من زمن كوفة يزيد إلى زمن مران حسين وصولا إلى كربلاء اللحظة الراهنة والواقع المعاش؟!
لا شك في أن الإجابة على هذا التساؤل لا تحتاج إلى حالة عصف ذهني كبير، ولا تتطلب ميزانيات هائلة لإنشاء مراكز بحثية وإيجاد باحثين ومفكرين لدراسة هذه الظاهرة.
المسألة باختصار تعود إلى الأتباع القاصرين عن فهم نهج قادتهم، والمقصرين في تقديم صورة واضحة عن ذلك النهج والمشروع بكل معانيه. ولأن النهج رسالي والمشروع رباني من الطائف إلى مران، فلا بد من تقديمه بشكل كامل، وتمثله بالمطلق، وتحسس كل جوانبه، وتجسيد كل معانيه في كل مجالات الحياة وميادينها المختلفة، لأن التركيز على جانب وإغفال جانب أو جوانب في هذا المشروع الإلهي، أو الاقتصار على الراهن وعدم تصحيح واقع النفوس وإزالة ما علق بها من رواسب الانحراف في الماضي، هي مما يجعل الساحة مهيأة لاستقبال يزيد في المستقبل وتنصيبه خليفة للمسلمين، سواء يزيد الفكر والثقافة أم يزيد الاجتماع والاقتصاد والحكم والسياسة.

أترك تعليقاً

التعليقات