جوهر الوعي الديني
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لاميديا -
هدى الله قبل أن يأخذ بيدك نحو القيام بما يلزم لنصرة القضايا الكبرى، والتصدي لقوى الفساد والظلم والطغيان والاستكبار؛ يعمل على بنائك من الداخل، وتطهيرك فكراً وروحاً من كل نقيصة ومفسدة ونزعة كبر وغرور، وينزع من ذاتك كل معالم القابلية للانحراف والتحريف، ويوجد فيك القابلية التي تفجر في كيانك القوة اللازمة لأخذ الكتاب كله، والتي يستحيل بوجودها أنْ تجد نفسك يوماً مؤمناً ببعض الكتاب، وكافراً ببعضه الآخر.
من هنا فإن الناظر إلى الوحي، والمهتم لنداء الله، ذلك النداء المبثوث في آيات الكتاب الحكيم؛ سيعي أنّ الدين موجَّه إلى باطن الإنسان قبل ظاهره، إذ يلتقي الخطاب القرآني دائماً مع موطن السرّ في النفس. فجعل الله للإنسان قابليةً فطريةً تتوجّه نحو الكمال، وأشار إلى ذلك بقوله [وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي] فهذا النفخ يميز الإنسان بقوةٍ يستعد بها لتلقي الهداية والتقرب إلى المبدأ الأعلى.
بكلمة أدق: إن التشريع الإلهي يدور حول تزكية النفس وتنمية الاستعداد الروحي الكامن فيها، وهو ما تعكسه آيات عدّة تؤكد صفاء الباطن ونموّه [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا].
فالتزكية حركة وجودية تعيد النفس إلى صفائها الأول، وتمنحها القوة على إدراك مواضع الحق والخير والجمال.
ومن هنا تأخذ العبادات موقعها ضمن نظامٍ يرسم للإنسان سبيلاً إلى الارتقاء؛ فالصلاة تفتح مجال الحضور مع الله، والصوم يحرر النفس من أثقال الشهوات، والزكاة تطهّر القلب من التعلّق، والحجّ يعيد الإنسان إلى ميثاقه الأول أمام ربه.
وهذه الأفعال [حين تؤدَّى بنحوها التام] تضع النفس في موضع استعداد لظهور التعاليم الإلهية فيها، إذ إن الإنسان مهيّأ ليكون مظهراً لهذه المعاني الإلهية، فيصبح مصداق لقوله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا».
فكمال الإنسان يتحقق حين تنكشف في وجوده آثار العلم والرحمة والحكمة والعدل، وكل ما ينتسب إلى صفات الجمال الإلهي.
إن الدين الإلهي طريقٌ لارتقاء الإنسان في مدارج الوجود، وتحويله من حالة التفرق إلى حالة الوحدة، ومن الغفلة إلى اليقظة. فالعمل الصالح يضيء الباطن، والذكر يزيل الحجب، والصبر يربي النفس حتى تبلغ مقام الاطمئنان الذي يصفه القرآن بقوله: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ».
فالرجوع هنا رجوعٌ إلى الأصل الذي صدر عنه الإنسان، ووقوفٌ في مقام العبودية الذي تُدرك فيه النفس حقيقتها. ومعرفة هذا المقام تفتح للإنسان باب الحكمة العملية، وتشهد على أن الغاية من التشريع هي بناء الإنسان الكامل، الذي يُشرق في وجوده النور الإلهي ويكون موضع رحمة للعالمين.
وعليه فكل خلل أو انحراف أو عجز أو فشل في حركة المحسوبين على الحق؛ ما هو إلا دليل على نسيان الله، والكفر بتعاليمه؛ فالوعي الديني في الإسلام لا يُفهم إلا بوصفه وعياً يتأسّس على واقعة ميتافيزيقية أصلية تتجاوز حدود التاريخ الزمني والتجربة الحسية، وهي واقعة العهد الإلهي الأول الذي نُصّ عليه في قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىأَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى» [الأعراف: 172].
فهذا الحدث ليس حادثةً زمنيةً لاحقةً في التاريخ، بل هو واقعة ما وراء التاريخ؛ أي أنّه أصلٌ ميتافيزيقيّ سابق على التجلّي المادي للإنسان في العالم، ومنه تنبثق علاقة الإنسان بالحقّ، وتُستمدّ شرعية كلّ وعيٍ دينيٍّ لاحق.
إنّ واقعة الميثاق الأول هي البنية التحتية للزمن الديني، فهي الواقعة التي تقيم الصلة الوجودية بين الإنسان وربّه، وتجعل من الإيمان تذكّراً لعهدٍ سابق لا مجرّد تصديقٍ بعديّ. ومن ثمّ، فالدين في جوهره ليس إنشاءً بشريّاً ولا تجربةً زمنيةً متأخرة، بل هو تذكيرٌ واسترجاعٌ لذلك الإقرار الأزلي. فالرسالات الإلهية جميعها لم تأتِ لتؤسّس العهد، بل لتذكّر به، لأن أصل العهد قائم في باطن كلّ نفس إنسانية منذ الأزل.
وبناءً على ذلك، يمكن القول: إنّ التاريخ البشري هو انعكاس للميثاق الأول في عالم الزمان، أو بعبارة أخرى: هو حركة تذكّرٍ مستمرّة لتلك الموافقة الأولى على ربوبية الحقّ. فكلّ ظهورٍ للنبوّة أو الولاية إنّما هو صورة من صور استعادة العهد في الوعي الجمعي للبشر، وكلّ انحرافٍ أو طغيانٍ سياسيٍّ أو روحيٍّ هو نسيانٌ لذلك الميثاق. وبهذا المعنى يغدو التاريخ ساحةً تتجلّى فيها الاستجابات المختلفة للسؤال الإلهي الأول: “ألستُ بربكم؟”.
ومن هنا يتبيّن أنّ ما يُسمّى بال “زمن المقدّس” هو الزمن الذي يظلّ على صلةٍ بتلك الواقعة الأصلية، أمّا الزمن السياسي أو الدنيوي فهو الوجه الذي يطغى فيه النسيان وينفصل فيه الإنسان عن العهد الإلهي. لذلك فإنّ جوهر الوعي الديني هو مقاومة هذا النسيان التاريخي، عبر حفظ الذاكرة الميثاقية التي تربط الإنسان بمصدره الأول. إنّ هذا الفهم الميتافيزيقي للوعي الديني يؤسّس لما يمكن تسميته بحكمة التاريخ، أي إدراك الحوادث والوقائع بوصفها تجلياتٍ للميثاق الأزلي، لا مجرد تتابعٍ زمنيٍّ للأحداث. فالتاريخ في ضوء هذه الحكمة ليس تراكماً خطّيّاً للوقائع، بل هو مرآةٌ تعكس في كلّ حقبةٍ درجة حضور ذلك العهد في الوعي الإنساني أو غيابه.

أترك تعليقاً

التعليقات