مروان ناصح

مروان ناصح / لاميديا -
الصــــور الشخصيـــة والرسائـــل فـي زمـن المراهقــة
في زمن المراهقة، كان لكل واحد منّا كنزه الصغير: صور شخصية مطبوعة على ورق لماع، ورسائل مكتوبة بخط متردد أو أنيق، تختبئ في الأدراج والدفاتر، وتُقرأ مرارًا كأنها نشيد سرّي.
لم تكن تلك الصور والرسائل محض أشياء تُتداول، بل كانت أشبه بمفاتيح لعوالم خفية، تفتح باب الشوق، وتحرّك القلب من وراء ستار الصمت.

الصورة.. مرآة للروح
الصورة الشخصية، رغم بساطة ملامحها، كانت تتجاوز حدود الورق لتصير نجمًا صغيرًا نحمله في محفظتنا، أو نخفيه بين طيات كتاب.
كل ابتسامة فيها كانت وعودًا مؤجلة، وكل نظرة تومئ إلى حلم بالألوان.
عدسة المصور، وإن كانت متواضعة، كانت بالنسبة لنا عينًا سحرية تحفظ لحظة من العمر وتحوّلها إلى رمز دائم.

الرسائل سواقي الكلمات
أما الرسائل، فكانت سواقيَ من الكلمات تسري على الورق لتغمر القلب.
كنا نكتبها ببطء، نزينها بالزخارف، نختار كلماتها بعناية، كأننا نؤلف قصيدة سرّية لن يقرؤها سوى صديق بعينه.
وفي كل رسالة كان هناك ظلّ لصوت خافت لم يحسن القلم إحالته إلى حديث شفاف.

مسرح المشاعر
لم تكن تلك الرسائل وسيلة للتواصل فحسب، بل كانت مسرحًا صغيرًا نحشد فيه مشاعرنا: الفرح، الغيرة، العتاب، وحتى الصمت.
وكأن الورق مرآة نواجه فيها أنفسنا قبل أن نواجه الآخرين.
كان للسطور المكتوبة أثر السحر، تعكس حرارة القلب بقدر ما تكشف ارتباك اليد.

طقوس الورق والصورة
كم كنا نحرص على الطقوس: اختيار ورق ملوّن، مغلف معطر، خط متأنٍّ، وربما وردة صغيرة تُخبأ داخل الظرف.
والجانب الآخر لا يقل سحرًا: صورة تُلتقط في استوديو قديم بخلفية زرقاء أو خضراء باهتة، لكنها في عيوننا كانت أكثر جمالًا من لوحات المتاحف.
كانت كل صورة بطاقة هوية للروح، وكل رسالة عهدًا وثيقا لا يُنقض.

صداقات المراسلة البعيدة
لم تقتصر الحكاية على من نعرفهم حولنا، بل امتدت إلى صداقات بعيدة نسجتها هواية المراسلة.
كانت المجلات تخصص بابًا للتعارف، تُنشر فيه صور الهواة وعناوينهم، فنختار من يشبهنا أو يثير فضولنا، ونكتب له رسائل أولى تحمل التحية ورغبة التعارف.
وهكذا صار لنا أصدقاء من بلدان متعددة، ننتظر رسائلهم بشغف، ونندهش كل مرة كيف يمكن للورق أن يختصر المسافات، ويجعل العالم يبدو أصغر وأكثر دفئًا.

لذة الانتظار
الانتظار نفسه كان جزءًا من الحكاية.
ننتظر قدوم ساعي البريد كمن ينتظر بشارة سماوية.
يضع الرسالة في يدنا فنرتجف، نهرع لفتحها بعيدًا عن العيون، نقرأها مرة أولى بعينين تلمعان، ومرة ثانية بعقل ملهوف، وثالثة لنحفظها غيبًا.
الصور أيضًا لم تكن تسلّم وتُنسى، بل كانت تُطوى برفق وتُخبأ في أدراج صغيرة كجواهر نفيسة.

حين تغيّر الزمن
وحين كبرنا، تغيّر المشهد.
صارت الصور تُرسل عبر الشاشات في لحظة خاطفة، والرسائل تأتي سريعة بلا رائحة ورق ولا انتظار.
لكن شيئًا ما انكسر في السحر: لم يعد للشوق فسحة كي يتأجج، ولا للكلمات وزنها حين تُخط بيد مرتعشة.
بقيت تلك الطقوس القديمة وحدها تحمل وهجًا خاصًا ألّا يستطيع الزمن الجديد يمحوه.

خاتمة
لعلنا اليوم نبتسم حين نعثر على رسالة صفراء أو صورة باهتة في صندوق قديم، لكن ابتسامتنا تلك تكشف أن أعمارنا لم تُمحُ من الورق، وأن قلوبنا تركت أثرها هناك.
فمهما تغيّرت الوسائل، ستظل الصور والرسائل التي تبادلناها في المراهقة دليلًا على أن للمشاعر طقوسًا لا يوازيها أي بديل.

أترك تعليقاً

التعليقات