مروان ناصح

مـروان نــاصح / لا ميديا -
مفتاح العالم في يد حالمة.. أثر الكتب والمراكز الثقافية في مرحلة المراهقة
في تلك السنوات المربكة، حين تتكاثر الأسئلة أكثر مما تتوافر الإجابات، كان المركز الثقافي في المدينة يشبه بوابة سحرية نُدلف منها بتردد، فنخرج محمّلين بعطر الكلام ودهشة الاكتشاف.
لم تكن القراءة عندنا مجرد تسلية عابرة، بل كانت أشبه بمرآة سرية نرى فيها ملامح أرواحنا، ونافذة تُطلّ بنا على سماوات لم يلمحها جيراننا ولا أهلنا.

اللقاء الأول مع الكتاب
غالبًا ما تبدأ الحكايات الكبرى مصادفة. كتاب منسيّ على طاولة خشبية، أو غلاف يلمع بألوان غير مألوفة، أو كلمة عابرة من أمين المكتبة: "جرّب هذا".
نفتح الصفحات كما لو كنا نفتح بوابة سرية، لا نعرف كيف نمضي في الطريق، لكننا نعرف بيقين أننا لا نريد العودة.
لحظة اللقاء تلك كانت أشبه ببرقٍ يشقّ العتمة، ينير فجأة مسالك عقلية لم نكن ندري أنها موجودة.

المركز الثقافي.. حضن دافئ للباحثين عن المجهول
في زوايا المركز الثقافي، حيث الصمت أعمق من أي درس مدرسي، وحيث رائحة الورق تختلط بدغدغة الفضول، وجدنا ما لا يمنحه الصف ولا البيت.
هناك، بين المقاعد الخشبية والطاولات الهادئة، كنا نشعر أن لكل كتاب عالما سحريًا يُفتح في داخلنا، فنجد فيه شيئًا من ذواتنا.

القراءة ملاذ من فوضى الداخل
المراهقة لم تكن يومًا نزهة سهلة؛ كانت عاصفةً من قلقٍ وحيرة وتوقٍ مبهم. ومع ذلك، كان الكتاب يُشبه ميناءً نرسو فيه لحظة تعب، ونسمع فيه صوتًا يهدئ ارتجاف أرواحنا. لم يكن يحاكمنا، لم يسألنا شيئًا، كان يفتح صدره، ونفتح قلوبنا.
نقرأ فنغدو منطلقين نحو حيواتٍ بديلة: أبطال مغامرون، شعراء حالمون، مفكرون يضعون العالم كله تحت مجهر عقولهم.
كان الكتاب ملجأً نمارس فيه حريتنا، بعيدًا عن ضيق الواقع ومحدودية المهام اليومية.

شخصيات نحيا معها
أكثر من أصدقائنا
كم من شخصية ورقية صارت لنا أقرب من أصدقائنا في الحارة وزملائنا في الصف!
نحبهم ونخاصمهم، نغار منهم ونشفق عليهم.
نتحاور معهم في صمت الليل، ونصغي إلى حواراتهم كأنها صدى لأفكارنا.
ومعهم تعلّمنا أول دروس الحياة: أن الإنسانية ليست وجهًا واحدًا، وأن العالم أكثر تعقيدًا مما يراه تلميذ على مقعد الدراسة.

الكتب مرايا للهوية الآخذة في التشكل
كل كتاب كان مرآة صغيرة نلتقط فيها ملامحنا: فكرة تشبه حيرتنا، جملة تلمع كجرسٍ في داخلنا، بطل يقاوم كما كنا نقاوم، أو يستسلم كما كنا نخاف أن نفعل.

البدايات التي تصنع الكبار
كثيرون من أولئك الذين صاروا كتّابًا أو مفكرين أو فنانين، لم يبدأوا من جامعات عريقة ولا مكتبات مترفة، بل من كتاب مستعار، ومن تجربة أولى مع نصٍ هزّ أعماقهم.

مقارنة مع حاضر اليوم
اليوم، في زمن الأجهزة اللامعة والسرعة المحمومة، صار الكتاب في أعين المراهقين شيئًا باهتًا أمام سطوع الشاشات. لكن من ذاق مرةً سحر الورق، لا ينساه. لأن للكتاب وهجًا داخليًا لا يبهت، وحرارةً لا يمنحها الزجاج البارد.

خاتمة
في تلك المرحلة الملتبسة، لم تكن الكتب مجرد أوراق وحبر، بل كانت أصدقاء سريين، وأدلة خفية، ومفاتيح لعوالم لم نكن لنجرؤ أن نطرقها لولاها. وفي زمنٍ كان فيه الحلم أوسع من الواقع، كان المركز الثقافي يشبه القلب: صغيرا في حجمه، لكنه عظيم في ما يحمله من أسرار ووعود.

أترك تعليقاً

التعليقات