«الزمن الجميل».. هل كان جميلاً حقاً؟! الحلقة 8
- مروان ناصح الأثنين , 1 سـبـتـمـبـر , 2025 الساعة 12:52:01 AM
- 0 تعليقات
مروان ناصح / لا ميديا -
اللغة.. حين كانت الكلمات تُقال لتُعاش
"الكلمة كانت أثقل من الرصاص، وأجمل من الورد، وأشد من المطر...".
هكذا يتذكر البعض زمناً لم تكن فيه اللغة سلعة، بل وعداً، أو تهديداً، أو عهداً يُقطع ويُحفظ.
في "الزمن الجميل"، كانت اللغة تصنع الذاكرة الجماعية، وكان للكلمات وقعٌ مختلف: تصافحك الجمل لا تطعنك، وتخيفك القصائد لا تُدلّعك، وكانت الأخطاء اللغوية تُعدّ من الكبائر، لا مجرد زلّات.
لغة الشارع.. مزيج الذاكرة والفطرة
في الأسواق والمقاهي والحافلات، كانت اللغة جزءاً من الكرامة الشخصية.
لا أحد يقول: "أنا آسف" بلا نبرةٍ حقيقية، ولا أحد يروي نكتة دون بلاغةٍ شعبية تُدهشك. حتى الباعة المتجولون كانوا شعراء يوميين بلا دواوين:
"يا بطيخ يكسر الصمت.. يا عنب يرسم الفرح!".
كان الناس يتذوقون اللغة دون أن يدرسوها، ويربّون أبناءهم على احترام اللفظ قبل أن يطالبوهم بحسن التصرف.
في الإعلام.. الفصحى بلا تكلف
في الإذاعة والتلفزيون، كانت الفصحى حاضرة بقوة؛ لكن بمحبة، لا بتجهّم.
يُقدّم المذيع النشرة وكأنه يُقدّم صلاة، ويقرأ الشاعر قصيدته وكأنه يعتذر من اللغة إن قصّر. كانت البرامج التعليمية تبثّ دروس النحو والصرف، ولا تُضحك أحداً، بل تُحترم. وكان الخطأ اللغوي يُحرج صاحبه، لا يُستساغ.
المدرسة.. حارس اللغة وناقلها
المعلمة التي تصحّح الكسرة والضمة كأنها تُرمم جداراً في الروح. والمعلم الذي يشرح بيتاً من المتنبي كأنه يفتح نافذة على الماضي والمستقبل في آن.
كانت اللغة في المدرسة مادة حياة، لا مجرد حصة في جدولٍ ممل. وكان حفظ النصوص، من الشعر والخطب، بمثابة تمرين وجداني على الإحساس والانضباط والخيال.
في السياسة.. سطوة البلاغة وبلاغة السطوة
حتى الخطاب السياسي في ذلك الزمن، كان يحرص على إتقان اللغة، لا على إتقان الخداع فقط. الخطباء يصعدون المنابر ومعهم الجاحظ والمتنبي وابن خلدون، وكان يُقال عن الزعيم: "خطب فأبكى الناس"، لا لأنه اتّهم الآخرين، بل لأنه أجّج العاطفة ببلاغةٍ تحفظ ماء الوجه. أما اليوم، فكثير من الخطب تُبكي، من سوء اللغة لا من صدقها.
والانحدار: حين غادرت اللغة مقاعدها
اليوم، اللغة في خطر، لا من العدو، بل من أهلها.
كلمات تكتب بكسل، وتُنطق بلا روح، وتُستهلك حتى تفرغ من المعنى.
اللهجات السوقية تغزو شاشات التواصل، وتُختصر الجمل في رموز، ويُقال "معليش" بدلاً من "لا بأس"، ويُكتب "إنشا لله" بدلاً من "إن شاء الله"، وكأن الكتابة الصحيحة ترفٌ نخبوي لا ضرورة له.
لا بأس باللهجات، فهي مرآة الشعوب؛ لكن حين تنقرض الفصحى من وجدان الناس يموت جزء من التاريخ، ويذبل الحلم المشترك.
خاتمة:
في "الزمن الجميل"، كانت اللغة كائناً حميماً نحمله معنا أينما ذهبنا، وكان للكلمات ظلّ، وعطر، وجرح، وشفاء.
اليوم، نكتب كثيراً، ونتكلم أكثر؛ لكننا نُصاب أحياناً بفقر المعنى وسط ثراء الكلام.
ولعل أجمل ما في اللغة يوم كانت جميلة، أنها لم تكن للتفاخر، بل للتواصل.
ولم تكن زخرفاً، بل هواءً يُستنشَق.
المصدر مروان ناصح
زيارة جميع مقالات: مروان ناصح