عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
حادثة الدوحة لم تكن شرارة عابرة في ليل المنطقة، بل هزّة عنيفة كسرت صمت المعادلات التقليدية. أصابع كثيرة أخذت ترتجف فوق خرائط التحالفات، والأنظار شاخصة نحو واشنطن بحثاً عن جواب: إلى أيّ حد تبقى التحالفات مصانة حقاً؟ وهل دفعت هذه الضربة دولاً، سواء كانت مرتبطة بمعاهدات سلام مع الكيان الصهيوني أو منخرطة في مسارات التطبيع أو تُحسب في خانة أصدقائه، إلى إعادة تقييم مواقفها؟ أم أنها أجبرت تلك العواصم على مواجهة سؤال أكثر إلحاحاً: ما قيمة التحالفات الأمريكية إذا لم تصن مصالح حلفائها؟!

القاهرة بين الدعم الخليجي والضغوط «الإسرائيلية»
أثارت محاولة استهداف قيادة حركة حماس في الدوحة تساؤلات استراتيجية عميقة في القاهرة، حول مدى تعرض مصر لمخاطر مماثلة، باعتبارها مركزاً للمفاوضات على أرضها، على غرار قطر. هذا الحدث دفع مصر إلى اعتماد الولايات المتحدة كقناة رسمية لنقل رسائلها إلى «تل أبيب»، مستفيدة من خط الاتصال المباشر مع واشنطن. تشير التقارير الإعلامية إلى أن مصر قررت خفض مستوى التنسيق الأمني مع «إسرائيل» حتى إشعار آخر، في أعقاب الغارة على قيادات المقاومة الفلسطينية في الدوحة، مع استعداد القاهرة لاستضافة الوفد المفاوض على أراضيها، ما يعكس رغبتها في الحفاظ على دورها الوسيط الإقليمي.
التساؤل الأهم هنا: هل ستتمكن مصر من استثمار هذا الموقف لتأكيد نفوذها دون الدخول في مواجهة مباشرة مع «إسرائيل»؟ على صعيد الطاقة، يشكل تشغيل إثيوبيا لسد النهضة بعد 14 عاماً من البناء عامل ضغط استراتيجي جديداً. الدعم المالي الأمريكي والمباركة «الإسرائيلية» للسد يثيران تساؤلات حول هدف استخدام السد كورقة ضغط لإعادة تشكيل المواقف المصرية بما يتوافق مع مصالح واشنطن وتوجهات «تل أبيب». بالتوازي، أثار إغلاق نتنياهو لخط الغاز المخصص لمصر بموجب اتفاقية ثنائية تساؤلات حول حدود الالتزام باتفاقية السلام الموقعة عام 1979، وإمكانية أن تستثمر القاهرة التحالفات العربية لتعويض فقد الطاقة، إذ أعلنت السعودية والإمارات عن مشاريع استثمارية على البحر الأحمر بقيمة تقترب من 20 مليون دولار وتوفير آلاف فرص العمل لدعم مصر. بينما يختبر التدخل «الإسرائيلي» في قطر قدرة القاهرة على التفاعل الاستراتيجي، يظل ملف الصواريخ والمسيّرات اليمنية مؤشراً إلى حجم الانزعاج «الإسرائيلي» من السياسات المصرية. السؤال الجوهري: هل تستطيع مصر توظيف كل هذه الملفات (سد النهضة، الغاز، الوساطة الفلسطينية، والتنسيق العربي) لتعزيز موقعها الاستراتيجي دون الدخول في مواجهة مفتوحة مع «إسرائيل»؟ أم أن المنطقة مقبلة على إعادة رسم خريطة التوازنات الإقليمية بشكل جذري؟

الوساطة والتحديات القادمة
سبق أن أعلنت السعودية استعدادها لتعويض القاهرة عن الغاز. ومع الضربة الأخيرة في الدوحة تبرز مؤشرات إلى أن قطر، باعتبارها لاعباً رئيسياً في سوق الغاز، قد تنضم إلى هذا المسار. هذا التطور يثير تساؤلات حول مدى قدرة مصر على تقليل اعتمادها على الشراكات التقليدية مع واشنطن و»تل أبيب»، وهل يمكن لدعم متنوع من السعودية وقطر والإمارات أن يرسم مساراً جديداً يعزز موقع القاهرة؟ أم أن مصر ستظل مقيدة بشروط الابتزاز السياسي والاقتصادي؟ إن دخول الدور القطري، إلى جانب الدعم الخليجي إن تم، قد يعزز موقع القاهرة كوسيط محوري في ملفات التفاوض مع حركة حماس، خصوصاً بعد محاولة نتنياهو استهداف الوفد المفاوض، وما عكسه ذلك من تراجع خيار التفاوض لصالح الخيار العسكري في غزة.
ورغم التنافس والاختلافات بين هذه الدول في عدة ملفات إقليمية ودولية، فإن هناك مؤشرات إلى تقارب مصالح مشتركة تجبرها أحياناً على التعاون في إطار مواجهة التحديات. في هذا السياق، قد يكون من الممكن أن يقف إلى جانب السعودية والإمارات وقطر لاعبان آخران مثل تركيا والصين، اللتين تمتلكان مصالح استراتيجية متزايدة في المنطقة. تركيا، على سبيل المثال، تظهر بوادر تقارب مع مصر في ملفات عدة، من أبرزها التعاون العسكري الذي يتجلى في مشروع مشترك لبناء مقاتلة متطورة، ما يعكس رغبة متبادلة في تجاوز الخلافات السابقة والعمل ضمن تحالفات إقليمية أكثر اتساعاً.
أما الصين فتلعب دوراً متنامياً في دعم استقرار المنطقة عبر مبادرات البنية التحتية والاستثمارات الاستراتيجية. كما أن النفوذ الصيني المتصاعد يجعلها لاعباً لا يمكن تجنبه في صياغة التوازنات الجديدة، خصوصاً في مجال الطاقة والتجارة.
وسط هذه التطورات، يبقى السؤال مفتوحاً: هل نشهد انطلاق مرحلة جديدة من التفاوض الدقيق بين دول المنطقة؟ أم أن الملفات المعلقة ستدفع «الشرق الأوسط» نحو خريطة قوة أكثر توتراً وتصعيداً؟
في ضوء هذا المشهد المتبدل، تبرز أمامنا فرضيتان تحليليتان: الأولى: أن المنطقة تقف على أعتاب مرحلة جديدة من التفاوض المتوازن والدقيق بين القوى الإقليمية، ويمكن أن يؤدي هذا التناغم الخليجي، مع امتداد محتمل لدور تركي وصيني، إلى حماية المصالح المصرية وتعزيز الاستقرار النسبي.
والثانية: أن التصعيد في الملفات العالقة قد يدفع الشرق الأوسط إلى إعادة رسم خريطة القوة بشكل متوتر ومتسارع، إذ تتفاقم الأزمة بين القوى وتنتقل التنافسات إلى أبعاد أكثر أعماقاً وأشد خطورة.
هنا يكمن التحدي الأكبر لمصر، التي عليها أن توازن بين الالتزام بقيود الحلفاء التقليديين، واستثمار فرص الدعم الخليجي الجديد والتحالفات الإقليمية الموسعة، في محاولة للحد من الابتزاز وضمان موقف تفاوضي.

هل يُشترى القرار المصري؟
الفترة القادمة ليست عادية، بل تحمل في طياتها أصعب التحديات. صحيفة «معاريف» الصهيونية كشفت عن عرض 155 مليار دولار، قيمة ديون مصر الخارجية، تُمحى من دفاتر العالم، مقابل أن تتولى القاهرة إدارة قطاع غزة لمدة 15 عاماً. للوهلة الأولى قد يبدو العرض مغرياً؛ لكن السؤال الأهم: هل يمكن أن تتحول الديون إلى وسيلة لشراء المواقف السياسية والسيادية؟!
لماذا الآن تحديداً يُطرح هذا العرض؟ ولماذا بالتزامن مع مناورات بحرية «إسرائيلية» قرب الحدود المصرية، تستخدم فيها الغواصات والتقنيات الحديثة؟ أهي رسالة واضحة: اقبلوا بالصفقة أو استعدوا للصراع؟ وهل يُعقل أن تُدار القضايا المصيرية بهذه الطريقة: تهجير أو إدارة مشروطة؟
ثم ماذا عن السيادة المصرية؟ هل يمكن لمصر أن تقبل أن تكون «الوكيل الأمني» لـ»إسرائيل» في غزة مقابل إعفاء من الديون؟ وأي معنى سيكون للوساطة إن تحولت إلى مجرد منفّذ لخطط الآخرين؟ إن القضية أعمق من مجرد مال. نحن نتحدث عن معادلة سياسية وعسكرية، وعن مظلومية شعب فلسطيني ستحدد مستقبل المنطقة بأسرها. فهل يملك الاقتصاد الحق في أن يضغط على القرار الوطني؟ وهل يُختزل الأمن القومي في دفاتر الديون؟ الأسئلة مفتوحة، والإجابات ستكتب مستقبلاً في التاريخ: إما أن يقال إن مصر باعت قرارها تحت وطأة الأزمات، وإما أن يقال إنها وقفت في وجه الإغراءات والتهديدات معاً.

أترك تعليقاً

التعليقات