إبراهيم الهمداني

إبراهيم الهمداني / لا ميديا -

طالما روَّج الخطاب الرأسمالي لمشاريع التنمية وللمنظمات الإغاثية ومشاريعها، التي تتبناها مؤسساته الثلاث (البنك وصندوق النقد الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية)، بوصفها طوق النجاة، وطريق الخلاص الوحيد أمام الشعوب النامية، لكي تتجاوز حالات الفقر والتخلف وتتحول إلى مجتمعات صناعية منتجة. لكن كان هناك فجوة كبيرة بين مفهوم التنمية في الخطاب الإعلامي، وطبيعة التنمية في المشاريع القائمة على الأرض، التي تتبناها تلك المنظمات، حيث كانت النتيجة المتحصلة من تلك المشاريع إغراق الشعوب بالقروض، وارتهان إراداتها للهيمنة الرأسمالية، والاستلاب المطلق لها، وهذا بدوره أدى إلى ارتفاع الكثير من الأصوات المنددة بتلك السياسة الإمبريالية الرأسمالية، في مختلف بلدان العالم. غير أن تلك الأصوات لم تكلف نفسها عناء البحث عن الحلول لإيقاف تلك الهيمنة وتبعاتها.
كان موقف الشهيد القائد (رضوان الله عليه) هو الموقف الوحيد الذي تناول تلك المشكلة بمنهجية علمية وصفية واستقرائية استنباطية دقيقة، انطلاقاً من المنهج القرآني، الذي يحدد طبيعة الأعداء ونفسياتهم ومواقفهم وحقيقتهم، في قوله تعالى: "مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْـمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ". وبناء على هذا الأساس استطاع الشهيد القائد الإلمام بالموضوع، وتناول أبعاده وجوانبه المختلفة، فشخَّص المشكلة ورسم مآلاتها، ووضع الحلول الناجعة لمواجهتها، وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي، من خلال معالجة جذر المشكلة نفسها، بتبني مشاريع تنموية حقيقية، تسير بالمجتمع وصولاً إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي.
إن ما طرحه الشهيد القائد في محاضراته بشكل عام يمثل فلسفة حياتية شاملة، تتفرع منها نظريات في مختلف مجالات الحياة، ذلك لأنه استند إلى المنهج القرآني، الذي تضمن الرؤية الإلهية الشاملة لسعادة الناس في الدنيا والآخرة، ولأنه أيضاً استند إلى منهجية علمية بحثية دقيقة، في قراءته للنص القرآني خاصة، والموروث التاريخي والفكري عامة، وقدم في دروسه قراءة مغايرة، عللت وفسرت وشرحت وربطت الأسباب بالنتائج، بعيداً عن القراءات الفقهية المقولبة، المستندة إلى النقل أكثر من العقل.
يقدم الشهيد القائد في محاضرة "اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً" قراءة متقدمة لمفهوم وطبيعة التنمية، وحقيقة المنظمات الدولية الحاملة لمشاريعها، التي يقدمها الخطاب الرأسمالي، وتنفذها منظماته لتعزيز الواقع الاستعماري، لتحقق بذلك استراتيجية تدجين الشعوب وإخضاعها، بحيث "تبقى الشعوب مستهلكة، ومتى ما نمت فلتتحول إلى أيدٍ عاملة داخل مصانعهم في بلداننا لإنتاج ماركاتهم داخل بلداننا، ونمنحها عناوين وطنية: "إنتاج محلي والمصنع أمريكي، والمصنع يهودي، والمواد الأولية من عندهم، والأغلفة من عندهم" (ص 7).
وبهذا استطاعوا إدخالنا في دائرة التبعية المطلقة، ولم يعد بمقدور أحد منا الاستغناء عن مساعدات ومشاريع التنمية الغربية الرأسمالية، فقد أصبحت أقوات الناس وملابسهم وكل احتياجاتهم ومتطلبات حياتهم بيد الرأسمالية ومنظماتها. وهذه الحقيقة تؤكدها طبيعة تلك المشاريع القائمة على سياسة القروض المقدمة من صندوق النقد والبنك الدوليين، والمساعدات والبرامج الإغاثية، التي تنفذها تلك المنظمات، وفقا لسياسة الرأسمالية الاستعمارية وخدمة لمصالحها، تحت مسمى التنمية القائمة على القروض، التي ترهق المجتمعات حاضراً ومستقبلاً، وتصبح التنمية حلما باهظ الثمن. يقول الشهيد القائد: "وإن كانت هناك تنمية، فهي مقابل أحمال ثقيلة، تجعلنا عبيدا للآخرين" (ص 7).
ولأن اليهود بطبيعتهم كاذبون في وعودهم وفي مشاريعهم وفي منظماتهم، فوعودهم بالتنمية مجرد كذبة، يفضحها الشهيد القائد بقوله: "فالتنمية هذه التي تسمع عنها، هل تعتقد أنها تنمية حقيقية؟! هم يحذرون أن يعطوك تنمية حقيقية، أن يعطوك بنية اقتصادية حقيقية، تقف على قدميك فوق بنيانها أبداً"، لأن ذلك بطبيعة الحال سيحقق للشعوب حالة من الاستقرار والاستقلال والاكتفاء الذاتي، وهو ما يخرجها من دائرة التبعية للإمبريالية، التي هي الهدف الأساس من عمل المنظمات.

تشخيص الشهيد القائد للوضع الاقتصادي العربي
يقدم الشهيد القائد قراءة نموذجية للواقع الاقتصادي في المجتمعات العربية، التي باتت رهينة لمشاريع المنظمات ووعودها بالتنمية، ويأخذ الواقع اليمني كمثال: "وفعلاً نحن هنا في اليمن كمثال، ناهيك عن بقية الدول العربية، والمسألة واحدة، طعامنا ولباسنا وأدويتنا ومختلف الكماليات التي نستخدمها: الصابون، الشامبو، مختلف المشروبات، مختلف العطور، الأشياء الكثيرة جداً جداً التي نستهلكها، معظمها شركات أجنبية بأيدي اليهود"، لأن هدف اليهود هو تعطيل البلدان الإسلامية من أي تنمية حقيقية، ومن أي مظاهر الاعتماد على الذات، والحصول على الاكتفاء الذاتي، أو جزء منه، وبذلك استطاع اليهود الانتقال بالصراع من مرحلة الصراع العسكري، "إلى صراع حضاري، يحتاج إلى أن تنهض الأمة من جديد، وتبني نفسها من جديد، حتى تكون بمستوى المواجهة للغرب، ولربيبة الغرب إسرائيل".
ولكي تكون الشعوب بمستوى المواجهة، عليها ألا تبقى رهينة لما تقدمه لها المنظمات، وما تفرضه عليها من مشاريع تنموية زائفة، يكون ثمنها باهضاً. "لن تكون تنمية حقيقية متى ما طلبوا منك أن تنفذ مخططاً لهم مقابل تنمية، فاعلم بأنك ممن يحمل النفسية اليهودية، التي تبيع الدين بالمال، وتبيع الوطن بالمال، وتبيع الناس بالمال".

استراتيجيات المواجهة والنهوض الاقتصادي
وفي سياق مواجهة تلك التبعية الاقتصادية للمنظمات الغربية، والأخرى العاملة في فلكها، والمشاريع التنموية الوهمية التي تدعي تقديمها، ولا تجني الشعوب من ورائها إلا الخراب ومزيدا من التبعية والارتهان، يقدم الشهيد القائد خطوات استراتيجية غاية في الأهمية، لتحقيق المواجهة المتكافئة والنهوض بهذه الأمة، انطلاقا من استشعار العداء لأمريكا و"إسرائيل"، وعدم توليهم، والالتزام بالتربية الإيمانية، ابتداءً بالحكام وانتهاءً بالشعوب، وكذلك ضرورة الاهتمام بالوضع الاقتصادي للأمة، بما يجعل "الشعوب قادرة على أن تقف على أقدامها، مكتفية بذاتها فيما يتعلق بقوتها الضروري"، إضافة إلى ضرورة مقاطعة شركاتهم وبضائعهم ومنتجاتهم، وهنا يضع الشهيد القائد تساؤلاً مفاده: "لماذا لا تتخذ الدول العربية قراراً بقطع التعامل الاقتصادي مع أي شركة إسرائيلية، أو تدعم إسرائيل؟! أليس باستطاعتهم هذا؟!".
ويؤكد أن المقاطعة وسيلة فعَّالة لضرب اقتصاد أعدائنا، وكسر حدّة هيمنتهم علينا. ثم ينتقل بنا إلى الاستراتيجية التالية لعملية المقاطعة، وهي ضرورة إنشاء كيان تجاري مشترك، يتمثل في إقامة سوق إسلامية مشتركة، مشيراً إلى أن الإمام الخميني قد تبنى هذه الفكرة، وإيران تبنت هذه الفكرة ودعت إليها وألحت عليها، فمن أجل أن يملك العرب قرارهم السياسي، "لا بد أن يكون لهم سوق إسلامية مشتركة، بحيث يحصل تبادل تجاري بين الدول الإسلامية، ومع بلدان ليست مستعدة أن ترتبط اقتصاديا بأمريكا"، وهذه الخطوة تحتم أن يكون لهم عملة موحدة.
وأشار إلى تجاهلهم لأهمية مثل هذه الخطوة، فلم "يتجه العرب أو المسلمون إلى أن يكون لهم عملة إسلامية موحدة" تكفيهم شر هيمنة الدولار الأمريكي، الذي يستنزف الاقتصادات المحلية. وتأتي خطوة محاربة الفساد -كضرورة ملحة- ضمن استراتيجية مشروع الشهيد القائد، في بناء الاقتصاد الوطني، حيث يعزو انتشار الفساد إلى الحكام، لأنهم "هم الذين يكونون بشكل يجعل الفساد ينتشر، فتقل البركات، وتكون خططهم الاقتصادية فاشلة".
ويصل الشهيد القائد إلى ذروة المشروع الاقتصادي الوطني، حين يقدم لنا البديل الأمثل للمنظمات الخارجية، التي لا تعدو كونها منظمات استخباراتية تعمل لصالح الأعداء، وتجعل الشعب يتواكل في طلب رزقه ومعاشه، ويعتمد على ما تقدمه له من فتات، تحت مسمى مساعدات غذائية أو مشاريع تنموية، وهي في حقيقتها منظمات هدامة، ومشاريعها هدامة أيضا.
والحل البديل للمنظمات ومساعداتها، هو عدم الركون إليها مطلقا، وضرورة الاهتمام بالزراعة، وإحياء وتفعيل دور الجمعيات الزراعية، خاصة في مشاريعها الزراعية التنموية المؤسسية، واستحضار مصطلح الأمن الغذائي في سياساتها وتوجهاتها، وبدلا من استهلاك تلك القروض الهائلة فيما لا نفع فيه ولا عائد منه، "لماذا لا تُوجه أو يوجه القسط الأكبر منها إلى الاهتمام بالزراعة؟! هل نتحمل القروض ثم لا نجد قوتنا مؤمَّناً أمامنا؟!".

استراتيجيات المواجهة والنهوض الزراعي
إن الاهتمام بالزراعة في استراتيجية الشهيد القائد يتجاوز الزراعة في مفهومها التقليدي، وعملياتها الفردية المعروفة، إلى مشروع الزراعة المؤسسية، القائمة وفق رؤى وبرامج وطرق وأساليب علمية حديثة، تقوم على العمل المؤسسي الجمعي. وهنا تحضر الجمعيات الزراعية، بوصفها البديل الأمثل للمنظمات، الذي يضمن لهذا الشعب تحقيق حريته واستقلاله وسيادته، من خلال استقلاله الاقتصادي، واعتماده على نفسه في توفير لقمة عيشه. ولكن الجمعيات الزراعية تلك، لن تحقق الدور المنوط بها إلا من خلال تضافر عوامل قيامها ونجاحها. وأول عواملها هو المزارع، ومراكز التسويق، والدعم الحكومي للديزل، والمدخلات الزراعية. وهنا يتساءل الشهيد القائد عن سبب غياب تلك العوامل: "أين هو الدعم للمزارعين؟! أين هو الدعم للزراعة؟! أين هو الدعم للجمعيات الزراعية؟! أين هي مراكز التسويق لاستقبال منتجات المزارعين؟! أين هو التخفيض للديزل نفسه الذي هو ضروري فيما يتعلق بالزراعة، والمواد الكيماوية الضرورية للمنتجات الزراعية!".
إن ما طرحه الشهيد القائد ليس مجرد كلام نظري، أو حلول بعيدة المنال، بل هي قراءة معمقة لإشكاليات الواقع وتداعياتها في المستقبل، وتقديم الحلول النابعة من واقع المجتمع، وحاجته الملحة إلى تجاوز حالة الوهن والضعف، التي يعاني منها ويشكو ويلاتها. وتكمن قوة تلك الحلول، في تلقائيتها وبساطتها، ويقين الناس جميعا بإمكانية تحققها ونجاحها، خاصة عندما يتحقق صدق النية، والالتفاف المجتمعي والشعبي حول القائد الحر الكريم، الذي يرفض الانصياع لهيمنة الرأسمالية، ويأبى لشعبه أن يظل رهين ما تجود به المنظمات، التي تهدم أكثر مما تبني، وتسلب أكثر مما تهب، ليصبح مفهوم الاقتصاد المقاوم هو الوجهة الشعبية الأولى، وتكون المقاومة خياراً جمعيا، وبناء الاقتصاد الوطني مبدأً لا محيد عنه.

أترك تعليقاً

التعليقات