مسمار إنجليزي!
- ابراهيم الحكيم الجمعة , 23 أغـسـطـس , 2019 الساعة 6:40:55 PM
- 0 تعليقات
ابراهيم الحكيم / لا ميديا -
يشبه الحال في جنوب اليمن قصة "مسمار جحا". مسمار دقته بريطانيا على مدى 128 عاماً من احتلال عدن وجنوب اليمن، بنهجها "فرق تسد" وتفريخ كيانات سياسية شكلية أخضعتها لمعاهدات صداقة فحماية واستشارة (وصاية)، واختزلتها في أعلام وجوازات سفر وطوابع بريد، ورواتب (مشاهرات) لسلاطينها وأمرائها ومراسيم نشيد وامتيازات "لولد الولد".
نجحت بريطانيا بذلك في إخماد المقاومة الوطنية وإدامة احتلالها عدن وتأمين قاعدتيها العسكريتين البحرية والجوية اللتين وسعت امبراطورية بريطانيا من خلالهما رقعة مستعمراتها شمالا وغربا وجنوبا، وهيمنت بهما على خطوط الملاحة الدولية بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، الأقدم والأكثف استيطانا بشريا والأثرى ثروات طبيعية والأوسع أسواقا استهلاكية.
وبجانب سياسة تغريب عدن وتجهيل جنوب اليمن وتوطين وتجنيس الجاليات الأجنبية لإذابة الهوية القومية اليمنية، عمدت سلطات الاحتلال البريطاني إلى غرس "هويات" مختلقة في جنوب اليمن، وعصبيات مناطقية موهومة، وأمنت اتفاق قوى الجنوب ضدها، لتشرق في أعقاب يناير 1839 شمس بريطانيا العظمى الثانية التي "لا تغيب عن أراضيها".
حسمت بريطانيا، باحتلال عدن والهيمنة على ما كانت تسميه "المحميات الشرقية والغربية" وترسيم حدود شطرية مع الاحتلال التركي لشمال اليمن، صراع الامبراطوريات الأوروبية على النفوذ في شبه القارة الهندية، وعلى خطوط الملاحة الدولية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وانفردت بلقب "مالكة البحار والمحيطات"، القرينة حتى اليوم بمسمى وزارة خارجيتها بالتوازي، اجبرت سلطات الاحتلال البريطاني قائد جلاء الاحتلال التركي عن شمال اليمن، يحيى بن حميد الدين، على الاعتراف بمعاهدة ترسيم الحدود بين الاحتلالين التركي والبريطاني لشمال وجنوب اليمن، عبر فتح جبهات معارك شمالا وغربا مع الادريسي المحمي بريطانيا، ثم مع آل سعود، ودعم مواجهات قبلية ضد حكم الإمام في شمال وغرب اليمن.
جبهات عدة غذتها بريطانيا شمالا وغربا وشرقا، بجانب تجنيد جيوش "الليوي" من المرتزقة في "المحميات" الخاضعة للاحتلال البريطاني، وغارات طيرانها على القوات اليمنية التي استطاعت استعادة عدد من هذه "المحميات"، لكبح جماح الإمام يحيى، وإرغامه بنهاية المطاف على الاعتراف بمعاهدة الحدود التركية البريطانية التي شطرت اليمن إلى شمال وجنوب.
وقع الإمام يحيى على ما سمي "معاهدة الصداقة اليمنية البريطانية" وتزمينها بأربعين عاما، بالتزامن مع تمكن الدعم البريطاني والأمريكي من إرغام بني سعود على توقيع "معاهدة الطائف" وتزمينها بـ20 عاماً، وتابعت سياسة تغريب عدن وترسيخ عصبية المناطقية بين قبائل وسكان جنوب اليمن، في "المحميات" الشرقية والغربية، لجعل الأخيرة جيوبا لتأمين استباب احتلالها.
ليس غريبا أن يظهر اليوم، بعد أكثر من نصف قرن، بين أوساط سكان جنوب اليمن من لا يزالون يبدون الانتماء لبريطانيا ويدينون لها بالولاء، ويمتدحون عهد احتلالها عدن وجنوب اليمن، 128 عاما، من دون خدمات تنمية، إلا من نحو 45 مدرسة (ابتدائية واعدادية وثانوية) ومستشفى عام وحيد، تأسست في الخمسينيات، بعد 110 أعوام على بدء الاحتلال!
نهجت سلطات الاحتلال سياسة تغريب النُخب وتقريبها إليها عبر منح دراسية داخل مدرسة أبناء السلاطين (البادري) ثم خارج اليمن، وامتيازات خاصة لعائلات بعينها من التجار وبيوت العلم، غالبيتها مهاجرة إلى عدن. وآتت هذه السياسة أكلها إبان عهد الاحتلال البريطاني، وتأسيس كيان "الجنوب العربي" و"المجلس التشريعي الاتحادي" برئاسة الحاكم البريطاني.
"الجنوب العربي" هو المسمار والإزميل البريطاني الأبرز دقاً. بدأت بريطانيا تأسيسه في عام 1959 ثم أعلنته وفرضته بالقوة في عام 1962 بدمج المحافظات الجنوبية والشرقية، أو ما كانت تسميه "المحميات الشرقية والغربية" مع "مستعمرة عدن"، ثم ضمت غالبية 23 سلطنة وإمارة ومشيخة فرختها طوال 128 عاما، لتأمين مصالحها وهيمنتها على جنوب اليمن.
سعت بريطانيا، بتأسيس هذا الكيان، إلى الظهور دوليا أمام موجة إنهاء الاستعمار ودعم استقلال الشعوب، بأنها انسحبت من جنوب اليمن ومنحته استقلاله، ومنع اندماج شمال اليمن الجمهوري الثائر مع جنوبه، وضمان ديمومة احتلال جنوب اليمن فعلياً، عبر توقيعها مع كيان "الجنوب العربي" ما سمتها "معاهدة صداقة"، لكن بنودها تصدح بأنها صك وصاية وحماية مهينة.
وقد وأدت ثورة 14 أكتوبر 1963 هذا الكيان "المسخ"، وانتزع النضال الموحد لليمنيين الاستقلال وجلاء الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967، لكن الأخير شحذ مسماره بتسليم السلطة إلى "الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل"، وبذر الصراع بينها وبين "جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل"، لتدشن حصاد ثمار ما غرسته طوال 128 عاما من صراعات متجددة.
صراعات تلت الاستقلال وأطاحت بالرئيس قحطان الشعبي (يونيو 1969)، ثم بالرئيس سالم ربيع علي (يونيو 1978)، ثم بالرئيس عبد الفتاح اسماعيل (أبريل 1980)، ثم بالرئيس علي ناصر محمد (يناير 1986)، وما زالت ذخيرة المسمار البريطاني (العصبية المناطقية والأحقاد الثأرية) نارا تحت الرماد، تطغى على المشهد في جنوب اليمن، وتجدد دورات الصراع على الحكم.
المصدر ابراهيم الحكيم
زيارة جميع مقالات: ابراهيم الحكيم