سبيل الخلاص
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
لا ينبغي انتظار ثلاثة أجيال حتى يكون نوفمبر آخر، واستقلال وطني آخر يحرر اليمن من التدخل الخارجي، لكن استعجال هذا السبيل الوحيد لخلاص اليمن من ويلات هذا التدخل الماثلة اليوم للعيان، يفرض اطلاع جيل اليوم على ما كان وما هو كائن، وما ينبغي أن يكون.
يظن جيل اليوم في اليمن أنهم يعيشون واقعا مغايرا عن واقع آبائهم وأجدادهم. تخفى عليهم وقائع مماثلة شهدها أسلافهم، جراء عبث الخارج باليمن أرضا وإنسانا، وإعادة تشكيله مجتمعيا وثقافيا، على مقاس أطماع الخارج، كما يحدث اليوم بالضبط!!.
فعليا: واقع اليمن اليوم، يجتر إرثا مشوها، خضع لتحوير ممنهج، ليس جينيا بالضرورة، وإن كان للعنصر الجيني حضور نسبي، بل تحوير ثقافي اجتماعي سياسي، خضع لمعايير جيوسياسية، واستخدم أدوات أنثربولوجية، وأنتج تشوها ماثلا!!.
درج محليا، قولهم «مسمار إنجليزي» في إشارة إلى أنه مسمار صلب قوي. الواقع أن بريطانيا دقت مسمارا إنجليزيا في عظام اليمن، اتسم بكونه مفصليا، وما تزال أعراض انغراسه مستمرة ومصدر ألم متجدد، باستثناء سنوات خدر المسكنات!!.
بدأ صنع هذا المسمار الإنجليزي، لدقه في اليمن، برحلات تسمى «استكشافية» وهي استخباراتية، ضمن ما عُرف بحقبة «الاستشراق»، والتي يفوق نشاط بعثاته الغربية نشاط أجهزة الاستخبارات المعاصرة، بكثير جدا، لكونه نشاطا أشمل وأعمق!.
برع ضباط القوى الإمبريالية، الرومان ثم الأتراك والإنجليز، في تقمص شخصيات البحاثة أو الباحثين، ومن بوابة تعلم اللغة العربية والتفقه في الدين، ولجوا إلى أدق تفاصيل المجتمع اليمني على امتداد خارطة اليمن الطبيعية: العربية السعيدة.
رصد استرابون اليوناني، تفاصيل مدهشة عن جزيرة العرب في موسوعته «التاريخ الجغرافي»، وتفوق عليه «المستشرقون» اللاحقون، أمثال ولستد، هاليڤي، جلازر، نيبور، زيتسن، هاينز، جاكوب،.. الخ في تشريح المجتمع اليمني بدقة وشمولية وعمق.
نعم، رصد هؤلاء كل شاردة وواردة عن اليمن وسكانه، وأعدوا أبحاثا طبوغرافية (جغرافية)، وديموغرافية (سكانية)، وسوسيولوجية (اجتماعية)، وسايكولوجية (نفسية)، وأنثربولوجية (ثقافية)، وفلكلورية وميثولوجية، بجانب دراسات اقتصادية وعسكرية.
استكشفوا «السلوك الاجتماعي وأنماط العلاقات الاجتماعية، والتفاعل الاجتماعي»، و»مجموع الأنشطة المادية والرمزية التي يقوم بها الإنسان في كل منطقة تحت تأثير الموقف»، بما في ذلك الخلافات والمشكلات القبلية وعوامل التآلف والتنافر،.. الخ.
يكفي هنا، أن نعرف أن رئيس اللجنة الدائمة للمسح والرسم الهندسي في البحرية البريطانية في الهند، الكابتن ستافورد بيتسوورث هاينز، كان من هؤلاء، واسع الثقافة وعالما وفنانا رساما، ووضع وأسهم في وضع عدد كبير من الخرائط منذ عام 1828.
نفّذ هاينز عام 1828م مسحًا تطلّب خبرة واسعة في الهيدروغرافيا الخاصة بسواحل الجزيرة العربية، تمتد من رأس جبرهندي إلى رأس سواتي ثم مسحًا آخر لمدخل الخليج الفارسي (الخليج العربي) وساحل الجزيرة العربية من رأس جبريندي إلى مسقط.
وفي عام 1833، «كُلِّف هينز بمسح جزيرة سقطرى بصفتها محطةً محتملة لتعبئة الفحم للسفن البخارية التي بدأ استخدامها على نطاق واسع، وكان ذلك قبل قناة السويس»، لكنه لم يستطع إقناع حاكم المهرة ببيع الجزيرة وفشلت بريطانيا عسكريا باحتلالها.
مع ذلك، أقنع هينز الحكومة البريطانية في بومباي بأن «عدن ستكون ميناءً استراتيجيًا أفضل من سقطرى ومركزًا تجاريًا مفيدًا»، و«اقترح على التاج البريطاني احتلال عدن لتكون حلقة وصل للأراضي البريطانية ولتأمين التجارة من بريطانيا حتى الهند».
وفي عام 1837، أقنع هينز سلطان لحج ببيع عدن على الرغم من معارضة ابنه، الذي حاول خطفه لعرقلة الصفقة. وأمام هاجس أن محمد علي باشا، حاكم مصر قد يسيطر على عدن، عاد هينز مع 700 جندي لاحتلال المدينة في 19 يناير 1839م.
جاء احتلال عدن، نتاج مسح شامل نفذه هاينز، للساحل الجنوبي الشرقي للجزيرة العربية «التي لم تكن قد سُجّلت أو رُسمت لها خرائط من قبل، وتظهر في الخريطة منطقة وُصفت بأنها غير مستكشفة»، والقرى والتحصينات ومناطق نفوذ القبائل،.. الخ.
وقد عُيِّن الكابتن هينز كوكيل سياسي لحكومة بومباي البريطانية، وتمت ترقيته الى نقيب عام 1841م، وأدار عدن وأعاد تخطيطها عسكريا «كانت مهامه الأولى بناء حصون، والمؤامرة لمنع تمرد العرب، واستخدام اليهود لإقامة شبكة استخبارات فعَّالة للغاية».
أسّس هاينز شبكة واسعة من العملاء العرب المسلمين واليهود (طابور خامس) «كانوا يزوّدونه بمعلومات دقيقة من داخل عدن، ومن مناطق جنوب اليمن الداخلية، وكذلك من شمال اليمن»، وسارع لتثبيت تمرد مشايخ الجنوب على سلطة إمام شمال اليمن.
يرد هذا حرفيا، في أشهر موقع إلكتروني متخصص بتاريخ وأرشيف إمبراطورية بريطانيا (www.britishempire.co.uk)، أسسه ويديره رئيس جمعية بليموث التاريخية، ستيفن لوسكومب، منذ العام 1997م، ويضم حاليا 20 ألف صفحة (مادة تاريخية).
يقول عن هاينز: «كانت مهامه الأولى هي إقامة التحصينات، والتآمر لمنع العرب من الاتحاد لطرد الدخيل، واستخدام اليهود لإنشاء شبكة استخبارات عالية الكفاءة، وصد هجمات استعادة عدن،.. وحافظ على السلام بثمن بخس من خلال رشاوى جيدة»!!.
مضيفا: استطاع هاينز «صدَّ ثلاث هجمات لاستعادة عدن»، واقترن به «أول غزو في عهد الملكة فيكتوريا»، و»لعب بالسياسة القبلية بمهارة فائقة» على قاعدة «فرق تسد»، وعُرف سياسيا ماهرا وماكرا، يمتلك مهارات فذة في الإدارة السياسية والخطط الاستراتيجية.
كما اشتغل هاينز مبكرا على تذويب قومية عدن، «لقد أظهر تفضيلًا واضحًا للعرب الكوزموبوليتانيين على طول الساحل. أولئك الذين ينتمون إلى كل بلد ولا ينتمون إلى أي بلد، المتحررون من العصبيات القبلية والمشككون في المعتقدات الدينية. أحبهم هاينز ووثق بهم».
في هذا، تذكر المصادر التاريخية أنه «قدّم البريطانيين على أنهم حماة ‘القبائل التسع‘ التي يُزعم أنها شاركت في حركة تحرر ضد النفوذ الشمالي منذ عام  1728 [16]».
ووقع مع مشايخ القبائل اتفاقيات صداقة ثم معاهدات حماية فمعاهدات حماية واستشارة (وصاية).
أوجدت الاتفاقيات جيوبا لتأمين احتلال مدينة وميناء عدن، ورافقها أيضاً بيع زعامات هذه النواحي مساحات شاسعة من الأراضي للاحتلال البريطاني، بينها الشيخ عثمان والبريقة وغيرها مما وفرت جيوباً لتأمين سيطرت بريطانيا على عدن، وإدامة احتلالها جنوب اليمن.
وبالتوازي، سعت بريطانيا لتعميد احتلالها عدن ووصايتها على عدن وجنوب اليمن ما عُرف بالمحميات التسع؛ من خلال توقيع اتفاقية «ترسيم حدود» مع المحتل التركي لشمال اليمن، لما تحت سيطرتهما عام 1914م، ليتشارك الاحتلالان في تشطير اليمن شمالا وجنوبا.
استتب الاحتلال البريطاني لعدن وجنوب اليمن واستطاع أن يدوم 129 عاما، عبر المزيد من الإعلال لقوة اليمن، فاستمرت بريطانيا في إعمال سياسة «فرق تسد»، وبعدما كانت كيانات جنوب اليمن تسعاً، صار عددها 33 كياناً، مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي!!.
الأمر نفسه، يتكرر منذ عشر سنوات. مع تغير اللافتات والواجهات، وتجدد الأدوات والمعاونين المحليين، الذين يجاهرون بتبعيتهم المطلقة لقطبي التحالف السعودي الإماراتي، ودول الهيمنة الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، بما فيهم الكيان الصهيوني!!.
يجاهر قطبا التحالف السعودي الإماراتي بدعمهما إذكاء النعرات المناطقية والنزعات الانفصالية، وتمويل إنشاء الكيانات والمليشيات العسكرية، ويتصاعد تصادم أجنداتها في اليمن، على نحو يفخخ البلاد بالمزيد من دورات الصراع، ويبقي اليمن رهنا لأطماع الخارج وأجنداته.
ويبقى الثابت، في مصادر التاريخ: أن اليمن لم يخضع لاحتلال أجنبي إلا حين تمزق قواه وتفرق أيدي شعبه وتشقق صفوفهم، مثلما تقر بأن اليمن ظل عصيا على غزاته وبلغ أوج حضارته، باتحاد قواه وتوحد إرادة شعبه ووحدة إدارتهم، على كلمة سواء، عنوانها السيادة والعدالة.

أترك تعليقاً

التعليقات