خديعة فبراير!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -

بين من يراها (هبة) شعبية سُرقت، ومن يراها انتفاضة أورثت ثورة، ومن يراها (أزمة) سياسية أورثت نكبة، ومن يراها انقلاباً سياسياً وعسكرياً مدعوماً خارجياً.. لا تزال (11 فبراير 2011) محل جدال واسع ومثار انقسام جلي على مستوى الشارع، مرده انعدام معايير واضحة متفق عليها، يمكن إسقاطها على أي أحداث مماثلة في أي زمان ومكان لاعتبارها ثورة شعبية أم انقلاباً سياسياً أو انقلاباً عسكرياً أم مؤامرة خارجية،.. إلخ التوصيفات.
أبرز معايير توصيف (الثورة) برأيي، ومن قرأت لهم من علماء المجتمع والاجتماع السياسي، هي: توافر الوعي الشعبي بماهية الواقع الكائن ونوع التغيير المنشود فيه ووجهته، وما ينبغي أن يكون، وتبعاً توافر إرادة جماهيرية غالبة لإحداث تغيير جذري إلى الأفضل تعذر في الظروف الطبيعية وانعدمت بدائل بلوغه النظامية، والتمكن من انجاز هذا التغيير أو إزالة كل عوائقه واقعياً في زمن قياسي، ما يسمى علمياً (حرق المراحل).
محلياً، قد نتفق أن الوضع السياسي في اليمن مطلع 2011 كان مأزوماً، والوضع الأمني موتوراً، وتبعاً الاقتصادي منكمشاً، وأن ثمة دواعي حقيقية كانت قد تأتت لإحداث تغيير جذري إلى الأفضل. لكننا سنتفق أيضاً على أن أطرافاً بعينها هي من اختارت الزمان والمكان والآلية، وأن أدوات ضالعة في سوء الحال هي من حدد الأهداف ومسار الأحداث، وظلت تقبض على الزمام والزناد في آن واحد، وأنها أعادت تدوير نفسها.
طغت إرادة شُعب مما يسمى النُّخب والأتباع، وانحسرت إرادة الشعب والاتباع له، واستحوذت على المشهد أدوات ملوثة وهتافات مستنسخة وأساليب غير نزيهة كسفك الدماء للتثوير وإعلام تدليس واختزال الخلاص في رحيل رئيس لا منظومة حكم، فحلت إرادة تلك الأدوات في ساحات (براءة الاختراع) محل إرادة الشعب في صناديق الاقتراع، واستبدل التغيير المنشود بالتغرير المشهود وحق الانتخاب بحق الانتحاب!
فعلياً، ظهر جلياً، وإن لاحقاً، أن غاية تلك الأدوات المتحكمة لم تكن وطنية خالصة، ولا تنشد خلاص الشعب واليمن، فتسيدت مظاهر الاستغلال، وسطحت أسباب الاعتلال، ومُيعت مواطن الاختلال، وقُيدت الحلول بتجديد الأغلال، وكانت المخرجات كارثية، أصلت المعضل وعطلت حل المشكل، وهيأت اليمن برمته لا سلبيات نظام حكمه، للسقوط في هاوية بدت هي المحرك والغاية ووجهة ما سمي (الربيع العربي)!
لا يستطيع أحد اليوم أن ينكر دور الخارج تخطيطاً وتدريباً وتمويلاً وتوظيفاً للأدوات الأكثر فاعلية والمحركة فعلياً في الدول التي اجتاحتها تحديداً دون غيرها، ولاعتبارات هامة، موجة (الربيع) بالتزامن في التوقيت والتطابق في الترتيب والشعارات والهتافات والوسائل والحوادث والمجريات والمخرجات، فالخارج نفسه (أمريكا وبريطانيا وإسرائيل وتركيا وقطر) لم يعد يجد حرجاً في الإقرار بدوره، وأن غايته فرض (شرق أوسط جديد)!
في هذا، بدا واضحاً إدراك الرئيس صالح أن المخطط أكبر منه ومن اليمن والمنطقة برمتها، فانحاز لمخرج بأقل الخسائر، على المستويين الخاص والعام، كحقن الدماء وصون سيادة اليمن ووحدة نسيجه وأراضيه ومقدراته، وكان إعلان اتفاق لتسوية الأزمة سمي لاحقاً (المبادرة الخليجية) وتوقيع اتفاق نقل للسلطة وفق آلية مُزمنة، تشهد عليه الدول الراعية لـ(الربيع) نفسها، أملاً في وأد مآربها لولا انقلاب أدواتها العميلة على الاتفاق.
كان ثمن الانقلاب على الاتفاق وآليته، تحويل الرعاية الأممية والإقليمية لتنفيذه، إلى وصاية دولية وإقليمية تامة على اليمن تحت إطار أممي، تمثلت في ارتهان تام للخارج في مقابل امتهان دامٍ للداخل، تعزز بإدراج مجلس الأمن الدولي اليمن تحت الفصل السابع، بطلب من الرئيس والحكومة الانتقالية، الشركاء الفاعلين لتفجير (11 فبراير) والاستحواذ على مكاسبه السياسية الشخصية والحزبية بتقاسم المناصب وتعميم المصائب وتعويم النوائب!
ولو لم يكن لـ(11 فبراير) إلا فرض قوى الظل الحاكمة قبلها، والمتحكمة اثناءها وبعدها، ومن تعمل معها من دول خارجية، للفار هادي رئيساً (توافقياً)، ثم دعمها تفكيكه الدولة وتمديدها له رغم كل كوارث حكمه الانتقالي، وتمسكها به حتى بعد استقالته، ومنافحتها عنه حتى بعد تسويغه عدوان تدمير وغزو واحتلال أجنبي لليمن، هدفه تمزيق نسيجه وتقسيم كيانه؛ لكفى لإعلانها خديعة كبرى ترقى إلى عداد البلوى، المستمرة تداعياتها الكارثية!
لهذا، وغيره من التفاصيل المؤلمة لإعادة (11 فبراير) تدوير أركان وقوى نظام الحكم وشخوصه، الأكثر فساداً وإفساداً ونهباً وظلماً وإجراماً ودموية وعمالة وخيانة، وتجديد تمكنهم من مفاصل الدولة وعلى قرار البلاد ورقاب العباد بهوية (ثوار)، مقابل تمرير أجندة وضعها ورعاها مجلس وصاية الدول الـ10 أثناء مؤتمر الحوار، ثم باعتمادها بقرار لمجلس الأمن، في سابقة خارقة لميثاق الأمم المتحدة؛ أرى بداهة الإقرار بأن (11 فبراير) تاريخ مؤامرة خفية خدعت كثيرين!
مؤامرة، لا تختلف جوهرياً عن مآلات (الربيع) في الدول التي اجتاحها، وإن بدت اختلافات شكلية في هذه الدولة أو تلك، وكادت تنجح في تحقيق غاياتها سياسياً، وعبر تفرد أدواتها بالقرار وفرض أجندة الخارج الوصي، الذي كان بشر منذ العام 2007 بما سماه (فوضى خلاقة) تغير خارطة الشرق الأوسط، وأطلق على احتجاجات الشارع مطلع 2011 بدءاً من تونس، اسم (ثورات شعبية) واختار وصفها (الربيع العربي) تجميلاً لمآلاتها التدميرية.
كان طبيعياً أمام مآلات تفكيك الدولة وجيشها، وتمكين التنظيمات الإرهابية، وتداعيات الانفلات التام والانهيار العام، أن تظهر ردة فعل شعبية حقيقية، فكانت احتجاجات 11 يونيو 2013 مخاضات 21 سبتمبر/ أيلول 2014م، بقيادة قوى محلية مشاركة في (11 فبراير) عانت الإقصاء في الساحات ثم في التقاسمات، وبدت واعية للتدخل الخارجي ومساره المرسوم برفضها الاعتراف باتفاق التسوية (المبادرة الخليجية وآليتها)، وتصدت لتوجهات حرف مساراته المعلنة، وصولاً إلى الثورة على قواه ومجلس الوصاية الخارجية.
في المقابل، عمدت دول الوصاية والهيمنة، لمسار بديل مُعد سلفاً لفرض أجندتها، تمثل في الإعلان عن تشكيل تحالف عسكري وشن حرب كبرى في 26 مارس 2015م، تحت أهداف معلنة خادعة ولأهداف رئيسة ظلت تؤكدها مجريات الحرب، هي: إعادة الأدوات المحلية للهيمنة والوصاية الخارجية إلى السلطة لفرض الأجندة الخارجية نفسها أمراً واقعاً، سواء بالخفة والفهلوة السياسية نفسها لهادي والإخوان، أو بقوة الحرب، التي اعترفت في بدايتها بـ(الأقاليم) في إعلامها، وعمدت لفرضها واقعاً عبر تشكيل مليشيات مسلحة.
لذلك، لا أجد منطقاً في مشاركة أدوات (11 فبراير) نفسها الاحتفاء بإجرامها المتواصل تسويغاً لعدوان خارجي حاقد، ومطالبةً باستمراره، وإنكاراً لجرائمه، وتبريراً لأطماعه، وتحليلاً لزيف وبهتان ادعاءاته، وشكراً لقيادات تحالفه على قتل الشعب اليمني وجرح أفراده وتشريدهم وحصارهم وحرمانهم مصادر دخلهم وتمزيق نسيجهم وتدمير مقدرات وطنهم واحتلاله!
على العكس، أرى أن تاريخ كشف المؤامرة والتصدي لأدواتها ومراميها في (21 سبتمبر 2014)، هو الأجدر بالاحتفاء، لأنه انطلق بدافع وطني أجلى، ولأجل استعادة سيادة اليمن واستقلال قراره عن غطرسة الوصاية والهيمنة الخارجية وخيانة أدوات نفوذها الداخلية العميلة، فكسرها استدعى تحالف العدوان، وفشله في إعادتها يؤكد انكسارها إلى الأبد بإذن الله.

أترك تعليقاً

التعليقات